الدول الناشئة والنامية الرابح الأكبر في قمة العشرين

الخلاف بين الولايات المتحدة والأوروبيين في قمة العشرين حول أولويات المرحلة الحالية هل هي لإعادة صياغة النظام المالي العالمي ووضع تشريعات ملزمة تضمن عدم تكرار هذه الأزمة، مع ما يعنيه ذلك من انحسار في الدور المهيمن للنظام المالي الأمريكي على الاقتصاد والنظام المالي العالمي، أم أن الأولوية، وكما تصر الولايات المتحدة، هي لتبني خطط إنقاذ جديدة تساعد على تسريع خروج الاقتصاد العالمي من نفق هذه الأزمة، حتى وإن تسبب ذلك في ارتفاع كبير في معدلات التضخم لاحقاً، هذا الخلاف صب في مصلحة الدول الناشئة والنامية من خلال تسببه في تركيز القمة على موضوعات تهم هذه المجموعة من الدول بشكل مباشر. فالمجتمعون يعلمون أنه من غير المقبول مطلقاً فشل هذه القمة، ففي حال حدوث مثل هذا الأمر، فسيقفز إلى الأذهان ذكرى اجتماع قمة اقتصادي آخر عقد في لندن عام 1933، أي في خضم أزمة مالية مماثلة، حيث تسبب فشل ذلك الاجتماع في لجوء الدول المجتمعة إلى الانكفاء على ذاتها وتبني سياسات حمائية أسهمت في مفاقمة الأزمة المالية في ذلك الوقت وتحولها إلى كساد حاد، نعرفه جميعاً الآن باسم الكساد العظيم، عانى منه الاقتصاد العالمي لما يزيد على عقد كامل، وأسهم في وصول أحزاب يمينية متطرفة للحكم في عدد من دول العالم أبرزها ألمانيا وإيطاليا الأمر الذي تسبب في اندلاع الحرب العالمية الثانية. وأمام هذا الواقع وهذا الارتباط التاريخي غير الإيجابي وجد المجتمعون أن هناك قضايا أخرى مهمة، الخلاف عليها ليس كبيراَ، وبالتالي يمكن الاتفاق عليها ما يتيح للدول المجتمعة الخروج بنتائج تظهرها ملتزمة ببذل كل جهد ممكن لإنقاذ الاقتصاد العالمي ومساعدته على تجاوز هذه الأزمة، بعيداً عن قضايا شائكة، كموضوعي التحفيز المالي أو إعادة صياغة النظام المالي العالمي، الذي يمكن أن يتسبب الخلاف حولهما في إفشال القمة.
لذا فإلى جانب التزام الدول المجتمعة بتفادي اتخاذ أي إجراءات حمائية، فقد ركزت قرارات قمة العشرين على اتخاذ إجراءات تحد من تأثر الاقتصادات النامية والناشئة بهذه الأزمة، فهي في الغالب دول لا تملك أي قدرة على تحفيز اقتصاداتها ومضطرة لتبني خطط انكماشية تستهدف الحد من تأثيرات هذه الأزمة موازين مدفوعاتها وعديد منها حتى مهددة بالإفلاس، ما قد يمثل عبئا كبيرا على الدول المتقدمة في حال اضطرارها إلى التدخل لإنقاذ تلك الاقتصادات من انهيار شامل، وفوق كل ذلك فإن تعافي تلك الاقتصادات يسمح بمزيد من التبادل التجاري معها، الذي يسهم بدوره في التخفيف من آثار الأزمة حتى في الاقتصادات المتقدمة نفسها. لذا نجد أن قرارات القمة غير العائمة والمحددة بوضوح كانت في معظمها تخص قضاياً تهم الدول الناشئة والنامية، كقرار زيادة مخصصات صندوق النقد الدولي بمقدار 500 مليار دولار، ما يعني مضاعفة موارده الحالية بمقدار الضعفين، وزيادة حصص الدول الأعضاء في حقوق السحب الخاصة بمقدار 250 مليار دولار، وهو الإجراء الذي ستكون الدول النامية أحوج إليه من غيرها من الدول الأعضاء، وتمويل التجارة العالمية بمقدار 250 مليار دولار، وتخصيص 100 مليار دولار لبنوك وصناديق التنمية الدولية والإقليمية لزيادة مساعداتها للدول الفقيرة والمحتاجة.
أيضاً فإن إقرار القمة بضرورة اضطلاع الدول الناشئة والنامية بدور أكبر في صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية، سواء كان ذلك من خلال رفع قدرتها التصويتية في الصندوق، أو من خلال قبول قيام الصندوق بدور أكبر في الرقابة على النظام المالي العالمي بدلاً أن يكون معنياً فقط بمساعدة الدول النامية على تجاوز مشكلات موازين مدفوعاتها، هو في حقيقته اعتراف بالدور المتنامي لهذه الدول في الاقتصاد العالمي بصورة تجعل من غير المقبول مطلقا استمرار تجاهل دول مهمة مؤثرة كالصين والهند والبرازيل، خاصة وأن من المتوقع تعاظم دورها في الاقتصاد العالمي خلال السنين والعقود المقبلة. ولعل الاهتمام الذي حظيت بها قمة مجموعة العشرين مقارنة باجتماعات مجموعة السبع أو مجموعة الثماني، إضافة إلى توقيتها المهم طبعا، هو ضمها لدول عديدة مؤثرة في الاقتصاد العالمي غير ممثلة في مجموعة الثماني، حيث إن وزيراً بريطانياً قال إنه يعتقد أن مجموعة الثماني قد ماتت.
فمن الواضح الآن أنه لا يمكن أن يتم اتخاذ أي إجراء حقيقي مؤثر في المستوى العالمي لا تشرك فيه الدول الناشئة والنامية الرئيسة في العالم، وأنه لن يكون بمقدور الولايات المتحدة بعد هذه الأزمة أن تتعامل مع بقية العالم، كما لو أنها تملك كل مفاتيح الحل، وهي مضطرة للتصرف بقدر أكبر من الواقعية بصورة تأخذ في الحسبان ما يعانيه اقتصادها ونظامها المالي من مشكلات هائلة، وبقدر ما تسارع الدول المتقدمة بالاعتراف بالدور المتعاظم للدول الناشئة والنامية، بقدر ما يكون العالم أقدر على تجاوز مشكلاته. وقد تكون الولايات المتحدة قد نجحت في قمة لندن في تفادي اعتراف صريح بضرورة إعادة صياغة النظام المالي العالمي بصورة تضعف من دورها المهين عليه، إلا أن هذا نجاح مؤقت ويقف في وجه تيار جارف يملي غير ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي