الرأسمالية ليست اختراعا غربيا
انصبت مقالتي المنشورة يوم الأحد الماضي، على بيان أن الربا والاحتكار والاستغلال ليست من أركان الرأسمالية، واعترض معترضون، ولكنهم لم يدعموا اعتراضهم بإثبات وفق منهجية مقبولة. مثلا لم يستشهدوا بمصادر أصلية معتبرة في تعريف الرأسمالية وإيضاح جوهرها أو أركانها الأساسية، وكيف أنه لا يمكن بقاء هذه الأركان دون وجود الربا أو الاحتكار.
في هذه المقالة أحاول بيان أن جوهر الرأسمالية ليس اختراعا غربيا، بل هو شيء كانت المجتمعات الإسلامية تمارسه قبل عصر النهضة الأوروبية.
من أين نتعرف على جوهر وأركان الرأسمالية تعرفا بأعلى موضوعية ممكنة؟ يجب ألا ننسى أن كلمة رأسمالية هي ترجمة للكلمة الأعجمية capitalism، ولذا فإن الموضوعية تقتضي التعرف على معنى capitalism بالرجوع إلى المصادر الأجنبية الغربية الأساسية، وليس إلى المصادر العربية، ولا إلى أقوال السياسيين وكتابات الصحافيين وعامة المثقفين. هذه قضية منهجية أساسية، ولا يمكن استمرار النقاش دون قبول ذلك.
تفسرها المراجع اللغوية والاقتصادية الإنجليزية المشهورة أنها نظام اقتصادي يستند إلى هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج كرأس المال والعمل والأرض، بغرض الربح. وهذا المعنى الذي يمثل جوهر أو أركان الرأسمالية هو موضع اتفاق بين علماء الاقتصاد الغربيين. ينظر، مثلا، في المراجع التالية:
Random House Webster's, Oxford Advanced Learner's Dictionary, The Dictionary of Modern Economics, The Palgrave Dictionary of Economics, and Wikipedia
ويقول ساملسون، أحد أشهر علماء الاقتصاد في القرن الـ 20، في كتابه علم الاقتصاد economics، الذي يعد أشهر كتاب في مبادئ الاقتصاد على مدى عقود، ودرس في عشرات الدول، وترجم إلى عشرات اللغات ومنها العربية: "إن قدرة هؤلاء "الرأسماليين" على التملك والحصول على ربح من رؤوس الأموال التي يملكونها هو ما أعطى الرأسمالية اسمها". ولا يشترط في حصول هذه القدرة وممارستها تعاطي الربا "مثلا". ومن جهة أخرى، الربا موجود قبل ظهور ما سمته أوروبا الغربية بالرأسمالية.
احترام الملكية الخاصة يستلزم بالضرورة أن الأصل في توزيع/ تخصيص الموارد والاستثمار والأسعار هي آلية السوق، ولذا تسمى الرأسمالية أحيانا باقتصاد السوق. والبعض يخلط بين مفهومي اقتصاد السوق وحرية السوق. اقتصاد السوق لا يعني بالضرورة حرية السوق، ولكن حرية السوق تعني بالضرورة اقتصاد السوق.
بالنظر إلى هيمنة الحضارة الأوروبية، وتحديدا حضارة أوروبا الغربية منذ ظهور الثورة الصناعية قبل نحو ثلاثة قرون، فقد اعتاد الناس الحديث عن الرأسمالية ونشأتها في إطار التاريخ الاقتصادي لأوروبا "الغربية". كان النشاط الاقتصادي في أوروبا قبل سيادة الرأسمالية خاضعا للطريقة الاقتصادية feudalism والتي ترجمت إلى نظام الإقطاع أو الإقطاعية الذي يقوم على وجود طبقة إقطاعية تملك الأرض، ويعمل لديهم مزارعون أشبه بالأرقاء، حيث ليس لهم حق التملك. ثم مرت أوروبا بفترات انتقالية خلالها بدأت تطورت الرأسمالية في أوروبا، متزامنة مع الثورة الصناعية.
لو طبقنا تعريف أو معنى الرأسمالية من حيث جوهرها على المجتمعات الإسلامية، فماذا نجد؟ نجد مجتمعات ينطبق وصف الرأسمالية على اقتصاداتها. حيث من المعلوم أن النظام الاقتصادي السائد في المجتمعات الإسلامية على مر القرون يقوم على سيادة الملكية الخاصة، وهيمنة الأفراد والشركاء على ملكية عناصر الإنتاج رأس المال والأرض، وهذا ما أقرته الشريعة.
وأقول أقرته، لأن حق الإنسان في التملك والحصول على ربح، كان الوضع السائد، على الأقل في مشرقنا العربي قبل ظهور الإسلام، وجاء الإسلام وأقر هذا الوضع، والأدلة أكثر من أن تحصى على إقرار الإسلام للملكية الخاصة وما يتفرع من هذا الحق، كحق البيع والحصول على ربح منها. وهذا ما يفتي به الفقهاء ودور الإفتاء والهيئات الفقهية، وعند كل هؤلاء أن الأصل احترام الملكية الخاصة. وطبعا هذا الأصل لا يناقض وجود قيود على الملكية أو السوق أو التصرف. وباختصار، دلت نصوص الكتاب والسنة أن احترام الملكية الفردية، هو الأصل، وتترتب على ذلك حقوق كالحصول على ربح، والبيع والهبة، وهذا ما سارت عليه جماهير المسلمين عبر القرون. ووجود قيود على الملكية والحقوق المترتبة عليها موجود حتى في الرأسمالية بصورتها السائدة في القرن الـ 19، وهذه القيود تتطور وتتغير مع تغير الظروف والأحوال والبيئات، ولذا كان التطبيق يتخذ صورا عديدة.
لو كان الغرب "خلال القرون السابقة لظهور الرأسمالية" يتبايعون ويتعاملون في تجارتهم وزراعتهم وصناعتهم وأموالهم بتشريعات أو أحكام مشابهة لما كان عليه المسلمون، لما استجدت أصلا التسمية رأسمالية.
الرأي السائد لدى المؤرخين الاقتصاديين الغربيين أن احتكاك الغرب بالمسلمين إبان ازدهار الحضارة الإسلامية كان له أثر كبير في تعريف الغرب بميزات اقتصاد السوق والملكية الفردية، واقتصادات المجتمعات الإسلامية قائمة على أساسهما عبر القرون، بل كانا موجودين قبل الإسلام منذ آلاف السنين، وجاء الإسلام فأبقاهما، ضمن ضوابط، وترك الباقي لاجتهادات البشر. والمقصود أن الرأسمالية ليست من اختراع الغربيين "أوروبا الغربية"، ويبدو لي أن مصدر توهم أنها من اختراعهم أن الثورة الصناعية ظهرت في أوروبا الغربية، وأنهم هم الذين أعطوا اقتصاد السوق التسمية رأسمالية، ولكن العبرة بالحقائق والمضامين. وبالله التوفيق،،،