رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


في ظلال الأزمة: لماذا توجهت جل أصابع الاتهام إلى الصين؟ وهل هو اتهام مبرر؟

من خلال تحليلنا لمختلف الدراسات المقارنة، وجدنا أن الصين، كانت هي القاسم المشترك، وأول من توجه إليه أصابع الاتهام، لتغذيتها الفقاعة التي خلقت عدم التوازن العالمي، من خلال استفادتها من تحرير التجارة، والعضوية في منظمة التجارة العالمية منذ عام 2001م، في وقت لم تحرر فيه عملتها، بل حافظت على سعر صرف اليوان، يضمن الحفاظ على مواصلة نمو قدراتها التصديرية. فقد خفضت الصين سعر عملتها بنسب تراوح ما بين 20 و80 في المائة، وفي المتوسط نحو 40 في المائة، لذا، فإن الصادرات الصينية – مقومة بالدولار الأمريكي – تعد أقل بنحو 40 في المائة مما ينبغي أن تباع به إذا ما تركت العملة حرة دون تقييد، كما يستفيد المستثمر الأجنبي في الصين بنحو 40 في المائة في شكل دعم لتطوير نشاطه، في حين تخضع صادرات الدول الأخرى للصين لضريبة جمركية تصل إلى نحو 40 في المائة.
لقد ترتب على تبني الصين السياسة المشار إليها أعلاه، وأد كثيرا من الصناعات في مختلف دول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة ودول أوروبا، ومن ثم، تصدير الوظائف وفرص العمل. وقد دعم هذا التوجه، تسابق وتدافع الشركات الأمريكية والغربية للاستثمار في الصين وغيرها من دول آسيا، للاستفادة من مزايا الإنتاج الرخيص، وشروط العمل الأقل تعسفاً، كل هذا صب في اتجاه تعميق حالة عدم التوازن عالمياً. ولهذا، ليس من الغريب أن تشهد الصين، وفي أقل من عشر سنوات، تصاعداً في احتياطياتها من النقد الأجنبي، بلغت نحو تريليوني دولار (بخلاف الذهب) في نهاية عام 2008م، مقارنة بنحو 150 مليار دولار مطلع عام 2000م!
لقد استفادت الصين كثيراً من هيكل النظام التجاري الدولي الذي انضمت إليه مطلع الألفية. فعلى الرغم من أن نحو 50 في المائة من دعاوى الإغراق وغيرها من الدعاوى المنظورة أمام منظمة التجارة العالمية موجهة مباشرة نحو الصين، إلا أن كل هذا لم يقعدها ولم يوقف مسيرة غزوها للأسواق العالمية، بما فيها السوق الأمريكية، ومن ثم نجاحها في تحقيق فوائض تاريخية، على حساب أغلب دول العالم. ربما يُرَدُ على ذلك بالقول؛ إن الصين، وفي ظل مبادئ حرية التجارة، تفوقت، نظراً لأنها تتمتع بميزات تنافسية، كمعدلات الأجور المتدنية، وغيرها من المزايا التي لا تتوافر لغيرها من الدول، وهو ما أهلها لتصبح مركز تصنيع عالميا أو مصنع العالم World Factory. ولكن يسهل الرد على ذلك بالقول "إن الممارسات التجارية غير العادلة لا تقتصر فقط على مجرد التحكم في سعر الصرف، فهناك أمور مثل حقوق العمال، والأجور، وبيئة العمل، ومعايير الأمان وحماية البيئة... إلخ، كل هذه العوامل تفرض تكاليف إضافية يتحملها المنتَج الصادر من الدول التي تعنى بهذه الأمور، في حين أن هناك دولاً أخرى (كالصين) لا تعطي اهتماما يذكر بهذه الأمور.
شكل (4): تطور إجمالي احتياطات الصين من النقد الأجنبي (من عام 2000 وحتى 2008م)

ولم تكتف الصين بتقييد عملتها، أو عدم تقيُدِها بأنظمة ومعايير الإنتاج والسلامة، وإنما عكفت على تقديم دعم غير مشروع للصناعة، لم تحظ به الصناعة في باقي الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وكان البعض قد قدر هذا المقدم لصناعة الحديد الصينية في عام 2007م بنحو 15 مليار دولار في شكل دعم طاقة، وهو ما يشكل ممارسات تجارية غير عادلة، أسهمت في إشعال الأزمة.
وبناءً عليه، ولربط مسألة اختلال المبادلات الدولية بالأزمة العالمية الراهنة، يمكن القول إن الصين وعدد من الدول، حققت فوائض كبيرة فاقت القدرة الاستيعابية لأسواقها، ولم يكن أمامها من سبيل سوى الاستثمار عبر الحدود. اضطرت الولايات المتحدة إلى تبني سياسة مالية ونقدية محفزة لاستقطاب تلك الفوائض، بما يمكنها من ملء الفجوة وتغطية العجز التجاري، الذي صعد من نحو 108 مليارات دولار عام 1997م إلى نحو تريليون دولار بنهاية 2008. لم تُتَح للولايات المتحدة الفرصة لإعادة التوازن، نظراً لعجزها عن التدخل لخفض سعر الدولار (معيار الدولار) أمام عملات الدول الأخرى، التي تجاهد لإبقائه مستقراً. هذا الوضع جعل من الاقتصاد الأمريكي اقتصاداً عالي الاستهلاك، وبمستوى متدن من الادخار، وهو ما تم تعويضه خلال جذب الفوائض الأجنبية. ولهذا كان من الطبيعي ألا تستمر هذه الحالة، وأن تكون الأزمة هي النهاية المنطقية.
من المؤكد أن النظام التجاري ملام، ولكن مسألة نمط المبادلات التجارية لا يمكن فصله عما عرضنا له بشأن معيار الدولار في مقال سابق. وقد دعم البعض هذا التخريج بالقول: "من المفيد جداً بالنسبة لنا (الولايات لمتحدة) أن نستورد سلعاً قيمة، في مقابل تصدير دولار ضعيف. لقد أدمنت الدول المصدرة للولايات المتحدة طلبنا، الذي حفز النمو الاقتصادي لديهم. هذا الاعتماد جعلهم حلفاء لنا في مواصلة الخداع، وأن مشاركتهم هذه تضمن بقاء قيمة الدولار مرتفعة، ولكنه ارتفاع مصطنع. وإذا ضَمِنا أن يستمر هذا النظام في العمل طويلاً، فلن يكون الأمريكيون في حاجة إلى العمل ثانية، وسنستمر في الاستمتاع تماماً مثلما فعل الرومان، ولكن الرومان، وبمرور الوقت، فقدوا ما لديهم من ذهب، وهو ما أضعف من قدرتهم على الاستمرار في احتلال الدول، فزالت إمبراطوريتهم. نفس المصير ينتظرنا (الولايات المتحدة) إذا لم نغير طريقة عملنا.
من خلال عرضنا أعلاه، يتضح جلياً لماذا تتوجه أصابع الاتهام إلى الصين وإلى منظمة التجارة العالمية، فقد عجزت تلك المنظمة طوال السنوات السبع الماضية عن إخضاع الصين، وكثير من الدول ذات التوجهات التصديرية لاتفاقاتها المختلفة. فكان المتصور أن يترتب على انضمام الصين لهذا الكيان، إخضاعها لمختلف الاتفاقات وضمان التزامها بتعهداتها، ومن ثم تنشيط صادرات مختلف البلدان إلى السوق الصينية الضخمة، وخاصة الصادرات الأمريكية، بما يضمن تضييق العجز في ميزان الحساب الجاري، وخلق مزيد من فرص العمل، على أثر نمو الصادرات. ولكن الذي حدث هو العكس تماماً، فقد كانت الصين ومعها عدد محدود من الدول، في مقدمة، بل وربما المستفيدين الوحيدين - إضافة إلى الشركات الغربية دولية النشاط - من قيام هذا الكيان المسمى بمنظمة التجارة العالمية.
وأخيراً، ألا يحق لنا أن نتساءل؛
في ضوء جلاء الحقيقة، وهي النمو المخيف في عجز الميزان التجاري الأمريكي، في مقابل النمو غير المسبوق في الفوائض لدى الصين وباقي دول شرق آسيا؛ لماذا لم تتخذ الولايات المتحدة - خلال السنوات الماضية - تحركاً جاداً يعكس حجم المشكلة؟ فلم تعط الولايات المتحدة اهتماماً كبيراً لقضية تصاعد العجز، لأنها كانت على يقين تام أن الفوائض ستدور دورتها، وتعود في النهاية إلى الحضن الأمريكي.
فالولايات المتحدة، ورغم خطورة المشكلة، كانت على يقين تام أن دول الفوائض، وخاصة الصين، لن تتوانى في مساعدتها، وحماية استقرار الدولار، باعتباره عملة العالم الأولى. وهذا ما حدث على مدى السنوات العشر الماضية، حيث كانت، ولا تزال دول شرق آسيا، في مقدمة الداعمين للولايات المتحدة (كالاستثمار في أذون الخزانة الأمريكية)، ولهذا لا نعجب كثيراً عندما نرى الدولار، وفي خضم أزمة الاقتصاد الأمريكي، يشهد صعوداً! وهذا عكس ما تتحدث عنه النظرية الاقتصادية، والسبب هو صاحب المعالي "معيار الدولار".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي