التعلم عن بعد ومعادلة اقتصاد المعرفة (2 من 2)
تواصلاً مع ما طرحناه في الأسبوع الماضي بشأن توظيف التقنية في المجال التربوي والتعليمي بهدف الانتقال بالمجتمع إلى اقتصاد المعرفة, يحسن أن نؤكد أن الاعتماد على الثروات الطبيعية كالمعادن, الذهب, الفضة, الفحم, البترول الغابات, والأشجار, أو الثروة الحيوانية, تمثل مصادر اقتصادية, وقد تكون مصادر قوية, وذات مردود جيد في فترة من فترات التاريخ لمجتمع من المجتمعات, لكن من يضمن استمرار هذه المصادر, فهي لا محالة ناضبة في يوم من الأيام, ولذا تكون المعرفة هي الأساس في إيجاد المصادر الاقتصادية التي يمكن أن يعتمد عليها المجتمع. ترى ما الأهداف والأسباب التي تكمن وراء الاهتمام بالتعلم عن بعد والتعليم الإلكتروني؟ هناك نوعان من الأهداف, أهداف فردية تلبي حاجة, أو رغبة عند فرد للاستزادة من المعرفة في حقل من الحقول, أو الترقي الوظيفي, أو استخدام الشهادة كوجاهة اجتماعية, وهذا الأمر يهم البعض, فالشهادة العليا أصبحت ذات قيمة في نظر البعض يسعى ويجهد في الوصول إلى هذا الهدف, وهذه أهداف مشروعة إذا تم الحصول على المؤهل بالطرق المشروعة التي لا تقلل من قيمة المؤهل, ولا تضر بأصحاب المؤهلات العليا الذين أخذوها بالجهد الشاق, والعناء, وسهروا الليالي, وتغربوا من أجل الوصول إلى هذا المستوى التعليمي الرفيع, لكن إن تم الحصول على المؤهل العالي من خلال ما يسمى دكاكين الشهادات, فهذا من شأنه أن يضر بالفرد والمجتمع على حد سواء. النوع الثاني هو الأهداف الاجتماعية التي تتمثل في توسيع رقعة التعليم والوصول إلى الراغبين في التعلم مهما بعدت المسافة بينهم, وبين مصدر التعلم المتمثلة في الجامعات, ومعاهد التعليم العالي, وفي هذا خدمة جليلة لكثير من الناس لإبقائهم في قراهم ومحافظاتهم وهجرهم بدلاً من انتقالهم إلى المدن مع ما يترتب على ذلك من ضغط على الخدمات, والطرق, والإسكان وغيرها من مظاهر الحياة في المدينة, كما أن من الأهداف الاجتماعية الارتقاء بالمستوى الثقافي, وبث الوعي في الأوساط الاجتماعية, وإحداث النقلات الاجتماعية الصحيحة من خلال المعرفة الصحيحة بدلاً من ترك الأفراد يحصلون على المعرفة كيفما اتفق مع ما يترتب على ذلك من أضرار تتمثل في اعتناق مفاهيم ورؤى لا تخدم المجتمع ولا تناسب ثقافته وقيمه. ويضاف إلى ما سبق من أهداف اجتماعية للتعلم عن بعد والتعليم الإلكتروني, التدريب على رأس العمل, الذي يمكن منتسبي بعض المهن من الاستزادة المعرفية, وربما المهارية في المجال أو الوظيفة التي يمارسونها بدلاً من تركهم في حالة كسل وترهل ذهني يضر بأداء العمل على الوجه المطلوب. إن إعداد كوادر جديدة قادرة على دخول سوق العمل بكل كفاءة, واقتدار قد يكون أحد الأهداف الاجتماعية, لكن هذا الهدف مرهون بجودة التعليم المقدم عن بعد, ومن خلال الوسائط الإلكترونية. التوجه الحديث في أساليب التعليم والتربية في الوقت الراهن هو الانتقال من التركيز على نقل المحتوى من المصدر والذي هو المعلم, أو الكتاب إلى التركيز على المتعلم لجعله أكثر تفاعلا ودافعية, وجعله جزءا من اكتشاف المعرفة, بل الإسهام في خلقها, وهذا قد لا يتحقق ما لم توفر الاحتياجات والأطر المنظمة للتعلم عن بعد.
إن التعلم عن بعد والتعليم الإلكتروني يسهمان في خلق القوة الناعمة, التي تتمثل في إيجاد النظريات والنماذج, والأطر النظرية, والقوانين والأنظمة والنماذج الإدارية الناجحة, وإجراءات التقويم, والتغيير في أساليب التفكير, والتعامل مع الآخرين تعاملاً فاعلا يتمكن من خلاله الفرد من توظيف الكوادر البشرية العاملة معه, القوة الناعمة تمثل ثقافة مجتمع ينتج بدلاً من الاعتماد على الآخرين, كما أن القوة الناعمة تقود في نهاية المطاف إلى إيجاد القوة الحسية المتمثلة في الصنائع, والزراعة, والغذاء, والتقنية, والبناء. إن القوة الناعمة مثلها مثل مخطط البناء الذي يبذل فيه المهندس جهده الذهني ليرسم مخططا جذابا, ويحقق الأهداف التي من أجلها سيستخدم هذا المبنى, ثم يقوم العمال بتخصصاتهم كافة بتحويل هذا المخطط إلى مبنى قائم مع ما يعنيه ذلك من توفير لاحتياجات ومرور بمراحل عدة حتى يكتمل البناء الحسي, وما بين وضع المخطط والتنفيذ حركة اقتصادية تستفيد منها جهات عدة. معادلة اقتصاد المعرفة تبدأ بالعقل إعداداً وتدريباً, ومعرفة تجاري آخر ما توصل إليه الإنسان في مجالات الحياة كافة. تأملت في بعض البلدان التي لا يتوافر فيها شيء من المصادر الطبيعية لكن القوة الناعمة الناتجة من أداء العقل واستثمار هذه النتائج, جعل من هذه الدول دولاً متقدمة يحسب لها حسابها في الاقتصاد العالمي. اليابان من خلال صروح التربية والتعليم استطاعت بعد الحرب العالمية الثانية أن تكون قوة اقتصادية وصناعية ذات شأن, وذلك بفضل توظيف عقول أبناء اليابان, ولذا لا غرابة أن تكون اليابان إحدى الدول الثماني, ولا غرابة أن نرى اليابان وهي تغزو أسواق العالم بمنتجاتها الحسية كالسيارات والإلكترونيات وكذلك الناعمة كما في نموذج الإدارة اليابانية التي أصبحت تدرس, وتعقد من أجلها ورش عمل يتدرب عليها الإداريون في الغرب. كما أن فنلندا تمكنت وبفعل القوة الناعمة من السيطرة على جزء كبير من سوق الهاتف الجوال والمعروف بـ "نوكيا" المنتشر في كثير من دول العالم, وقد تزيد دهشتنا حين نعلم أن هذا الجهاز تنتجه قرية في فنلندا تحولت إلى معلم اقتصادي أسهم في إثراء السوق الفنلندية, وجذب كثيرا من الأموال وتوظيف كثير من أبناء فنلندا في هذه الصناعة.
النظام المتكامل الذي يرعى مصالح الأفراد, ومصلحة المجتمع كفيل أن يمكننا من الاستفادة من التعلم عن بعد, والتعليم الإلكتروني بدلاً من أن يقع أبناء الوطن فريسة لذوي الأطماع المادية, ومن ثم تكريس الجهل, والتخلف المعرفي من خلال مؤسسات لا يتوافر فيها من العلم, وأخلاقياته أدنى مستوى. النظام المتكامل للتعلم عن بعد والتعليم الإلكتروني يجيب على تساؤلات: كما مقدار ما تعلمه الفرد من المعرفة والمهارات؟ وكما مقدار ما يجب أن يتعلمه, ليكون قادراً على أداء دوره الاجتماعي على مستوى عالٍ من الكفاءة والمهنية؟.