معزوفة (النقد الهادف البناء)
هل تأملت في هذا العنوان؟ كم مرة قلت أو سمعت (النقد الهادف البناء)؟! دعك من التذكر .. أنت تقولها وأنا وغيرنا أو نسمعها في كل مرة يثور فيها نقاش حول رأي ورأي مضاد، موقف وموقف مغاير، تصور وتصور بديل .. سواء كان الأمر يتعلق بشأن ثقافي أو بقضية ذات علاقة بالمصلحة العامة أو مرفق من مرافق الخدمة.
المثير المدهش أن مواصفات النقد الهادف البناء تتمحور حول صورة مثالية لا وجود لها إلا بشكلها المطلق المجرد، وهي عند كل شخص تمتلك سمات خاصة ترضي هذا ولا يعترف بها ذاك وما هو (بناء) عند أحدنا قد لا يكون سوى (هدام) عند أحدنا الآخر .. وقل مثل ذلك في (الهادف) و(غير الهادف).
النقد هو ميدان التغيير والتطوير والاكتشاف وصراحة الوعي والذائقة ورغم أننا نزعم حب الصراحة إلا أننا غالبا نكره الصرحاء. وبالتالي نَصِم كل قول أو رأي لا يتطابق مع وعينا وذائقتنا باعتباره ليس من فئة النقد الهادف البناء. حتى لو كان هادفاً وبناءً!!
النقد بطبيعته نتاج زواج الموضوعي بالذاتي عند الشخص.. وهو زواج مهره المنهج ومأذونه الرؤية لا يسمح بطغيان الذاتي على الموضوعي ولا أن يفرط الموضوعي بالذاتي إكراماً لعين مثالية لا وجود لها على الأرض، وهو في منهجه يعمل على تفكيك وتشريح وتحليل المادة أو الموضوع المنقود بناء على رؤية لا يهمها في المقام الأول سوى حشد أكبر شحنة من وهج المعرفة وتسليطه لفضح المناطق الدامسة العفنة إن وجدت وإبراز مواطن الجمال والفتنة، وفي الطريق لفعل ذلك يتم الإيحاء بالبديل والممكن .. أي أن النقد (لكي يكون بناء) لا يملك سوى أن يكون هداماً منذ البداية إلى النهاية. وإلا فكيف تتسنى له معرفة المكونات والعناصر والأسس التي قام عليها وبسببها هذا الشيء المنقود سواءً كان مادة كتابية أو مؤسسة. وطبعا نحن نتحدث هنا عن هدم مجازي.
إن كل تاريخ الفكر البشري، كل تاريخ الحضارات، معارك الفلاسفة والمفكرين والعلماء والأدباء والفنانين كانت سجالات من النقائض الحادة والصراعات الساخنة التي كان فيها كل طرف يهوي بمعوله أو بمشرطه، من أجل إماطة اللثام أو نزع القناع عن الوجه الحقيقي للموضوع وما إذا كان يملك سمات وملامح تتطابق مع قوامة العقل والإبداع والإنجاز أم هو مجرد تدليس ومساحيق على هيكل محنط. وفي الحالات التي ابتليت البشرية فيها بوصايات على (النقد) وتوزيع شهادات حُسن سيرة وسلوك عليه باعتباره (بناء) أو (غير بناء) تحول الفكر والمفكر إلى الطبلة والطبال.
ربما يسارع بعضهم إلى الاعتراض على هذا (التعميم)، إذ كيف نساوي بين تهريج وسفه وهجاء وبين نقد جاد؟ والحقيقة أن القول السفيه سوف يكون لصاحبه بمثابة تعرية له أمام الملأ.. وقد ترك لنا جدنا المتنبي رداً بليغاً عليه:
(صغرت عن المديح فقلت أهجي
كأنك ما صغرت عن الهجاء!!)
إن التمترس خلف (النقد الهادف البناء) يفضح الولع بالحصانة الذاتية وخلع الأهمية القصوى على ما نقول أو ما نفعل أو ما نقوم به باعتباره إنجازاً معجزاً يتطلب فقط الإشادة والتصفيق. ولعل هذا يفسر كيف يرتج علينا، نثور، ننفعل، نركض في صحراء رمضاء، نلوذ بظلالنا، نابزين من قارب قولنا أو فعلنا بالألفاظ الغلاظ لمجرد أنه دل على التشوهات أو أشار إليها.
النقد ليس مهرجا أو حكواتياً أو بهلواناً دوره التسرية عن خواطرنا والترفيه عنا، وتملق نرجسياتنا إنما هو مواجهة فكرية موضوعية فنية صريحة لا تعترف بالألقاب والمناصب والشهادات والمقامات كجوازات مرور للمواضيع أو الأعمال أو الإجراءات، بل العكس هو الصحيح، فما يسفر عنه النقد من نتائج ناصعة وهو ما يكرس للألقاب والشهادات مكاناتها وقيمها المعنوية ويعمق أهميتها ويزيدها قوة وألقا.
ها إننا نتحدث عن (الحوار مع الآخر) فيما نحن نطابق بشكل حاد بين ذواتنا وبين ما نقوم به، (نشخصن) الرأي أو النقد، نعتبره موجها لشخصياتنا ولا غير.. وأحسب ذلك عرضا من أعراض ثقافة الصحراء سواء في كون الصحراء بيئة طاردة وليست جاذبة أو في كونها تدجج إنسانها بالريبة والشك والحذر واللا ثقة، وبالتالي التحفز لرد الفعل عند أدنى بادرة.. وهو نسق أو سلوك إن كان مقبولا عند أجدادنا، فما أظنه يستحق مساحة له في الوجود بيننا، وقد قطعنا من المدنية أشواطاً.
وبعد.. إنه لضرب من الخيال أن يحلم مواطن من العالم الثالث باعتماد مقولة فولتير: (إنني على استعداد لبذل دمي في سبيل أن تقول ما تريد حتى ولو كنت أعارضك تماما!؟) لكن، في المقابل، أليس ضربا من الجنون اعتبار النقد مسح جوخ وإلا فهو شهادة كيد وزور؟!