على وزارة الصحة أن تعالج "الترهل" الوظيفي على طريقة "جنرال إلكتريك"
بدأت وزارة الصحة في حصر أعداد موظفيها الإداريين العاملين في القطاعات الصحية المختلفة للتخلص من (الترهل) الوظيفي الذي تعانيه من خلال تكدس موظفيها في بعض القطاعات. وحسب تصريح الوزارة سيتم نقل بعض الإداريين وتوزيعهم على قطاعات صحية أخرى هي في حاجة إليهم. ويقدر العدد الإجمالي لموظفي وزارة الصحة، حسب بيانات الوزارة، بـ 173 ألف موظف، تمثل نسبة الإداريين 53 في المائة.
وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح تدل على أن وزارة الصحة بدأت تدرك أبعاد المشكلة وتفكر بطريقة منهجية للبناء من أجل البقاء. إلا أن نقل مجموعة من الموظفين من قطاع إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى داخل الوزارة نفسها لن يحل مشكلة (الترهل) الوظيفي فهذا أشبه بنقل كتلة بحجم معين من مكان إلى آخر داخل جسم واحد فسيظل وزن الجسم كما هو دون نقصان، فالهدف الأساس من معالجة الترهل جعل المنظمة خفيفة ورشيقة حتى تتمكن من السير نحو الأهداف بسرعة عالية.
وحتى تتضح لنا مشكلة (الترهل) في المنظمات وطريقة علاجها دعونا نأخذ إحدى الشركات التي واجهت هذا الأمر في فترة من فترات حياتها. واجهت شركة "جنرال إلكتريك" مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أزمة ترهل وكان وضعها في هذا أشبه ما يكون بوضع وزارة الصحة السعودية هذه الأيام.
لاحظ القائد الأسطوري جاك ويلش عام 1981، عندما تم تعيينه على وظيفة كبير المديرين التنفيذيين للشركة، تكدس أعداد هائلة من الموظفين في إدارات ومرافق الشركة الأم والشركات التابعة لها، كما لاحظ ضخامة المشاريع التي التزمت بها الشركة والذي أدى إلى بطء في الحركة وقلة في الإنتاجية. فكر "ويلش" في طريقة عادلة و دائمة للتخلص من هذا الوضع، فصمم آلية لقيت قبولا في أوساط الشركة سميت بعد ذلك (مبادئ "ويلش" الأربعة للقيادة) والتي أصلها لاحقا بعد تقاعده في كتابه الشهير Jack: Straight from the Gut مما جعل كتابه هذا من أكثر الكتب مبيعا في التاريخ بعد الكتب السماوية، رغم الدعاية الفاترة والوقت غير المناسب لصدوره، فقد صدر في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، اليوم الذي تم الهجوم على برجي التجارة العالمية في نيويورك، و في يوم واحد حصل "ويلش" على مليون دولار جراء بيع الكتاب، حيث اصطف الناس في حشود هائلة منذ منتصف الليل لاقتناء نسخة من طبعته الأولى.
نعود لمبادئ "ويلش" الأربعة والذي خصص جزء منها لمعالجة (الترهل) الإداري. قام "ويلش" بنقل 100 ألف موظف دفعة واحدة إلى شركات أخرى لا تتبع لـ "جنرال إلكتريك"، بعدها قام ببيع أكثر من 100 مشروع، وبهذا أعيد للشركة شبابها وأناقتها حتى أصبحت رشيقة تتحرك بخفة وتسير بسرعة 95 ميلا في الساعة في عالم يتحرك بـ 55 ميلا في الساعة حسب تعبير "ويلش". ولقد أصبحت آلية "ويلش" هذه، لمعالجة الترهل، عرفا تمارسها "جنرال إلكتريك" حتى يومنا هذا، فما بين وقت وآخر تقوم الشركة بتسريح موظفيها الذين يعيقون مسيرتها.
ولم يكتف "ويلش" بتصفية الموظفين الكسالى بل عرج على القياديين وفقا لمعيار (الأداء في العمل و الولاء للشركة) وقد صنف القياديين وفقا لهذا المعيار إلى أربع فئات: النمط الأول: القياديون الذين يحققون الالتزامات المالية وغير المالية وفي الوقت نفسه يؤيدون قيم الشركة، وهؤلاء يتم الاحتفاظ بهم ويُعدون أصلا من أصول الشركة. النمط الثاني: القياديون الذين لا يحققون الالتزامات المالية و لكنهم يؤيدون قيم الشركة، وهؤلاء يتم منحهم فرصة وتحويلهم إلى وظائف تناسب قدراتهم. النمط الثالث: القياديون الذين لا يحققون الأهداف المالية ولا يؤيدون قيم الشركة فهؤلاء يتم التخلص منهم فورا لأنهم العقبة أمام التقدم والإنجاز. النمط الرابع: القياديون الذين يحققون الالتزامات المالية ولكنهم لا يؤيدون قيم الشركة، وكان هذا من أكثر القرارات صعوبة فكيف تتعامل مع قائد يحقق الأهداف بكفاءة عالية إلا أنه يهزأ بقيم الشركة. وبعد عصف ذهني مضن حسم "ويلش" هذا الأمر، أن من يقع في هذه الفئة فمصيره التسريح من الشركة ولا فرق بينه وبين النمط الثالث لأنه خطر على عقيدة "جنرال إلكتريك".
وبعد ثلاثة أعوام من الانقلاب الداخلي المؤلم لم يعد أحد يعرف ملامح "جنرال إلكتريك"، فقد تخلصت من الأعباء غير المجدية، ومن الموظفين الكسالى غير الراغبين في العمل والإبداع، ومن القياديين الذين لم يتخذوا قيم "جنرال إلكتريك" عقيدة لهم و منهاجا.
هذه لمحة عن تجربة "جنرال إلكتريك" في معالجة الترهل الإداري ولا يُنصح باستنساخها بل تكييفها حسب الوضع الحالي لوزارة الصحة وحسب البعد القانوني والثقافي للدولة. وفي مقال قادم ـ بإذن الله ـ سنقدم اقتراحات تساعد متخذي القرار على حل مشكلات التقدم و تمكن الوزارة من معالجة الترهل من خلال عاملين أساسيين، الأول: عودة الاستشاريين الذين يتقلدون مواقع قيادية إلى عملهم الأصلي في المجال الطبي، والثاني: تمكين الإداريين المبدعين من داخل الوزارة ـ وهم كثر ـ من تقلد المواقع القيادية العليا بعد تدريبهم وتنميتهم وصقلهم.