وهل يصلح التكتيك ما أفسدته الاستراتيجية؟
الاقتصاد مرتبط بالإدارة، فهي العنصر الحاسم في الاقتصاد، والإدارة نشأت وترعرعت ونضجت في المؤسسات الاقتصادية الغربية التي تسعى لاستخدام مواردها الاستخدام الأمثل بما يعظم إنتاجيتها، وبالتالي إيراداتها بالمحصلة، أما المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني فلم تكن إلا المستفيدة من نمو الفكر والممارسة الإدارية في المؤسسات الاقتصادية الخاصة خصوصا العملاقة منها.
القطاع الخاص في بلادنا نشأ وترعرع ووصل إلى مرحلة المراهقة وشيء من النضج في حضن الحكومة، التي لم تجد من بد من ممارسة كافة الأدوار بعد توحيد المملكة على يد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - بما في ذلك الدور التطويري والتشغيلي والتمويلي، وبالتالي فالقطاع الخاص في بلادنا لم يهتم بالفكر الإداري وتطبيقاته، ولم يولد فكرا إداريا بالنتيجة بقدر ما مارس الإدارة بشكل عفوي في بيئة استثمارية أبوية تنعم بالرعاية والحماية والدعم والتفضيل الحكومي.
"طقها والحقها" كانت ولا تزال الخطط التي تعمل بها الكثير من المؤسسات الاقتصادية في بلادنا، وخطة طقها والحقها، والمراهنة على الزمن، وإدارة المشكلات لا تقتصر على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بل إنها وللأسف الشديد تمارس في الكثير من الشركات الخاصة الكبرى في بلادنا، وهو ما يجعل خدماتها ومنتجاتها من الرداءة بالشكل الذي يجعل العميل يلف على نفسه سبع لفات عندما يتعامل معها، إذ يجد أن "إهانة العميل هدفنا" هو الشعار اللفظي المناسب الذي يجب أن تضعه تلك المؤسسات على أبوابها بناء على ما يراه من سوء معاملة وقلة اهتمام، بل وازدراء وانتقاص في كثير من الأحيان.
يقول أحد المستهلكين الواعين في بلادنا، إنه لاحظ سلوكيات لا تسر القاصي قبل الداني يقوم بها بعض التجار الموردين للمواد الاستهلاكية في بلادنا، حيث يسعى هؤلاء جميعا لاستيراد المنتجات ذات الجودة اللامعة Flashy Products التي تجعل المشتري يظنها عالية الجودة، ولكنها رديئة وذات أضرار بيئية واقتصادية وصحية سيئة للغاية، وذلك لتحقيق أعلى هامش ربح لأنها يشترونها بأسعار البضاعة الرديئة ويبيعونها بأسعار البضاعة الجيدة، ويؤكد هذا المستهلك الواعي والنادر طبعا أن هؤلاء الوكلاء الذين حققوا أرباحا خيالية نتيجة هذه الممارسة اللا أخلاقية واللا قانونية، التي تتنافى مع أبسط مبادئ الشريعة الإسلامية (مَن غشنا فليس منا) مازالوا سادرين في غيهم، ويمارسون أبشع التكتيكات لتحقيق المزيد من الإيرادات على حساب المواطن والوطن، وكأن لسان حالهم يقول (أنا ومن بعدي الطوفان)، والدين لا يعدو عن كونه مجموعة عبادات روحانية، أما المعاملة فلا شرع ولا شريعة تحكمها بتاتا.
أحد الذين يمتلكون سيارة من علامة تجارية مرموقة تصل قيمتها لأكثر من نصف مليون يقول إنه يعامل في الوكالة معاملة لا تختلف تماما عمن يراجع وكالة اشترى منها سيارة بـ 10 في المائة من هذا المبلغ، ويدفع مبالغ صيانة طائلة بشكل دوري تصل تكاليف بعضها لأكثر من 15 في المائة من قيمة سيارة صغيرة. ويقول أيضا إن خدمة ما بعد البيع لا تقول إلا "جيت وجابك الله" لمسلخ مالي لخدمات لا تزيد جودة عن أي ورشة يعمل بها مجموعة من العمالة غير النظامية في إحدى المناطق الصناعية، إلا أنك تستطيع أن تدفع بالفيزا كارد بدل النقد وأنت مجبر وإلا فقدت ضمان المصنع!!
النجاح السهل في بيئة مدعومة ومحمية وما نتج عنه من ضعف في الفكر والممارسة الإدارية أدى إلى غياب العمليات الإدارية المعروفة (التخطيط، التنظيم، التوجيه، الرقابة) بصورها المتطورة بل حتى في صورها البدائية، حيث أدى إلى غياب الخطط الاستراتيجية المتطور منها والبدائي، وهو ما أدى بالتبعية لسيادة الخطط التكتيكية العشوائية (ردود أفعال سريعة تقرر في اجتماع) لإطفاء المشكلات التي تقع هنا وهناك بجهود عالية وتكاليف باهظة ونتائج ضعيفة, إن لم تكن مخزية.
وكل إداري لديه من الفكر الإداري الشيء اليسير يدرك تمام الإدراك أن عدم التخطيط يعني العشوائية، وأن عدم التخطيط يفضي لعدم التنظيم وهو ما يعني الفوضى، وهو ما يعني أيضا عدم إمكانية توجيه الموارد البشرية نحو تحقيق الأهداف وعدم إمكانية المراقبة والتقويم، أي أن العملية الإدارية السائدة هي "طقها والحقها" بكل ما تعنيه هذه العبارة من معان.
أحد المتندرين يقول نحن في الشركة نطبق أفضل خطط "طقها والحقها"، وهي ممارسة تعني أنك تتخذ القرار دون الحاجة إلى تطبيق أي منهجية لاتخاذ القرار، فإن نجح كان بها وإن فشل نعالج مشاكل الفشل، وهو ما يعني عدم الحاجة إلى الدراسات والأبحاث، وذلك للوقوف على الواقع شرحا وتحليلا وتشخيصا، كما يعني غياب التفكير في الاستثمارات المثلى بناء على التشخيص السليم، وكيفية تحقيق أهداف هذه الاستثمارات بأقل وقت وتكلفة وجهد وبشكل مستمر من خلال تطبيق أحدث نظريات الفكر الإداري، التي توصلت لمبادئ أخلاقية مبهرة تقول بضرورة تحقيق مصلحة المستثمر بما يساهم في تحقيق مصالح كافة الأطراف ذات الصلة باستثماراته دون تغليب مصلحة طرف على آخر، لأن ذلك يحقق الاستمرارية والنمو، وبكل تأكيد نقول نحن المسلمين إنه يحقق رضا الخالق وهي غايتنا جميعا كقيمة رئيسية وليست مضافة.
لن يصلح التكتيك العلاجي مهما كانت صورته، ومهما استخدم من أدوات اقتصادية، وإعلامية وأدوات ضغط في تحقيق الأهداف إذا فسدت الاستراتيجية، ومن أكبر صور فساد الاستراتيجية غيابها، حتى وإن كانت في أبسط صوره، فهل يعي مجتمع الأعمال والقائمون على الأجهزة الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني ذلك؟ كلنا آمل ورجاء في شباب تسلحوا بالعلم والمعرفة والمهارة بل والخبرة أيضا، وينتظرون الفرصة بعد أن تنسحب بعض الديناصورات التي باتت أسيرة نجاحات حققتها في أحضان دافئة، وهي لم تدرك أن العالم في تحول من حال إلى حال، وأنهم أصبحوا إشكالية بعد أن كانت حلا.