هيئة سوق المال السعودية والصمت في زمن الكلام!

حتى لا تتكاثر الظباء على خراش، وحتى لا تتعدد السبل أمام صناع القرار وتذهب جهود بناء السوق المالية أدراج الرياح، من الأهمية بمكان تفعيل الدور المؤسسي لهيئة سوق المال بحيث تستطيع ضبط إيقاع السوق بما يواكب المستجدات الاقتصادية على الساحتين المحلية والدولية، وبما يخدم الغرض الذي أنشئت من أجله. ففي مرحلة معينة من التطور يؤدي وجود سوق للأوراق المالية وبشكل فاعل إلى تنمية وتطوير الفكر المؤسسي لدى القطاعات الاقتصادية، وترسيخ مفهوم واستمرارية المنشأة بما يوفره من بيئة مثالية وملائمة لتنمية وتطوير روح الابتكار والإبداع وتوفير الفرص المناسبة لإعادة الاستثمار بشكل مُنتظم ما يزيد من فاعلية رؤوس الأموال, ناهيك عن تخفيض التكاليف المُتعلقة بجمع مدخرات المواطنين المهيأة للاستثمار من خلال تجميع الطلبات الاستثمارية كافة في سوق واحدة, ما يسهل الربط بين مختلف المناطق الجغرافية وتجميع المعلومات المتفرقة. في الآونة الأخيرة تناولت الصحف إمكانية السماح بتداول السندات والصكوك الإسلامية في سوقنا المالية، ولا غرو أن مثل هذا القرار يبعث على الرضا والسخط في آن واحد، فعلى الرغم مما يتضمنه من أن سوقنا المالية في طريقها إلى التطور وأن موضة تداول الأسهم وما تبعها من صخب وما أحدثته من متاعب لشريحة كبيرة من المواطنين قد تجاوزناها، وحسب المثل الشامي "اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب". أما مبعث السخط فهو التخبط الحاصل والضبابية في القرارات الاقتصادية وما تُلحقه من ضرر بشريحة عريضة من المواطنين.. بل الوطن بأسره وإلا كيف تتم الإشارة إلى مثل هذه القرارات المصيرية والسوق فيها من الأسقام ما الله به عليم؟ مثل هذه القرارات الجائرة في حق السوق المالية قبل المواطنين تحمل مضامين خطيرة، ففي ظل الأزمة المالية العالمية نحن في حاجة إلى الحفاظ على مُدخرات المواطنين اللهم إلا إذا كان الوضعان الداخلي والخارجي لا يهمانا البتة!! نحن الآن في أشد الحاجة إلى تضميد الجراح والسير بخطوات علمية وعملية لعلاج أوضاع سوقنا المالية, وذلك من خلال التأكيد على الثوابت الأساسية التي أنشئت السوق من أجلها, وتعظيم المكاسب الاقتصادية من وجودها. إن الحقيقة الماثلة للعيان هي، على الرغم من التجاوزات التي حصلت في الماضي والنداءات المتكررة من أهل الخبرة والاختصاص، قرار هيئة سوق المال طرح ما مقداره 26 مليون سهم من أسهم شركات التأمين الجديدة لتضيف إلى سوقنا المالية مزيدا من المعروض ما يجعل سوقنا تنوء بحملها من الأسهم، كل هذا من شأنه وضع السوق تحت ضغوط ستؤدي في النهاية إلى مزيد من الهبوطات السعرية. وبالنظر إلى ما تحقق فعلاً، سوقنا المالية لا تعكس الكفاءة المطلوبة التي تتمثل في عكس الأسعار وبسرعة لجميع المعلومات التي من شأنها التأثير في القيمة السوقية للأوراق المالية، وعليه نجد أن الصيغة القريبة لسوقنا هي فرض الصيغة الضعيفة، وتحدد هذه الفرضية ضعف كفاءة سوقنا المالية, حيث إن المعلومات التي تعكسها أسعار الأسهم المدرجة في السوق هي معلومات تاريخية بشأن ما طرأ من تغيرات على أسعار الأسهم, وكذلك أحجام التداولات السابقة، والنتيجة صعوبة في التنبؤ بأسعار الأسهم, وذلك بالاستناد إلى الأسعار التاريخية الماضية, وبذلك ستكون التحليلات المتعلقة بتغيرات الأسهم وأحجام التداولات في الشهور الماضية مضيعة للوقت ولن تفيد المستثمر في شيء، وحتى يكون المستثمر في وضع يسمح له بتحقيق ميزة عن غيره وتحقيق أرباح غير عادية، فبإمكانه تحقيق ذلك عن طريق الحصول على المعلومات المهمة بطريقة أو بأخرى من المنشأة صاحبة الشأن, ويكون بذلك حقق مكاسب لم يصل إليها المستثمر العادي. ما آلت إليه الأحوال في دولنا المجاورة تجعلنا نُعيد النظر في كثير من سياساتنا المتعلقة بسوقنا المالية، فعلى سبيل المثال لا الحصر سمح بعض دول الجوار للمؤسسات والشركات بشراء جزء من أسهمها, وفي اعتقادي أنها لن تكون خطوة سرمدية بقدر ما هي ضرب من ضروب المُسكنات التي قد تعيد للسوق جزءا بسيطا من توازنها المفقود، إضافة إلى ذلك لم نسمع بحجوم كبيرة من الاكتتابات تؤثر في الأسعار، علاوة على التطمينات القوية بأن الأوضاع تحت السيطرة وباستعداد البنوك المركزية للتدخل وقت الضرورة مع السماح لكثير من المؤسسات المالية والتجارية باتخاذ ما تراه مناسبا من خطوات تضمن استمراريتها كالاندماجات مثلاً. أما مقارنةً بأوضاعنا الحالية فلم تظهر تطمينات على مستوى من القوة تُبدد المخاوف وتبث الطمأنينة في نفوس المتداولين وتُعيد الهدوء إلى جنبات السوق، كما دبت الحياة في الاكتتابات من جديد بعدما هدأت لفترة بسيطة استبشرنا بها خيراً عسى ولعل السوق تستطيع هضم الكم الهائل من الأسهم. الواقع مُخيب للآمال، طروحات جديدة، تطمينات خجولة للسوق، لا تقارير توضح وجهة نظر الهيئة تجاه القضايا المحلية والدولية ومدى ارتباطها بسوقنا، ولا حتى منبر إعلامي يتواصل مع المواطنين. هذه الخطوات السلبية من قبل الهيئة مردها أن الوضع الاقتصادي الحالي للمملكة على ما يرام لم يتأثر، وأن السوق ما زالت في حاجة إلى تعميق، ويبدو أن هيئة سوق المال غالبا ما تستنير بآراء من يرى أن الأزمة المالية العالمية لا تشكل أي تهديد جدي للاقتصاد السعودي لا من قريب ولا من بعيد، والأغرب تناسي من يردد هذه الأمنيات مدى تشابك وارتباط الاقتصاد السعودي بالاقتصادات العالمية, خاصةً أن درجة انفتاح الاقتصاد السعودي على الأسواق الخارجية عالية، ويكفينا في هذا المقام تأثر إيرادات الدول المنتجة للنفط جراء انخفاض الطلب العالمي بسبب الأزمة المالية.
من الثابت أن السبل الكفيلة بحل مشكلات السوق عديدة, وأن طرق تحقيق الكفاءة عديدة أيضا بتعدد قائليها ومفكريها. الحلول أمام الهيئة تبدو واضحة كوضوح الشمس في رائعة النهار, لكن أهل الرأي لهم مُقترحات قد لا تتناسب مع توجهات الهيئة. التركيز على استقرار السوق في الأجلين القصير والمتوسط ضرورة مُلحة, خاصةً في ظل التقلبات الاقتصادية الحادة، فاستقرار السوق يشمل التوازن بين العرض والطلب, لأن الاختلال سيؤثر بلا شك في الأسعار، فالاكتتابات المُكثفة السابقة خلقت فائضا كان وراء الاختلال الحاصل وإلى أجل غير مُسمى. ما يحصل من اكتتابات جديدة هو إضافة إلى المعروض وسيترك السوق في حيرة من أمرها إلى أن يتم الإعلان عن توقف تام للاكتتابات مُدتها زوال الغُمة عن الأسواق المالية العالمية. تشجيع الصناديق الاستثمارية الحكومية والخاصة، على السماح للشركات بشراء نسبة محددة من أسهمها، وتغيير التذبذب بنسبة أكبر للصعود وأقل للهبوط، والتواصل الدائم بين الهيئة والإعلام من خلال منبر إعلامي دائم, كفيل بتحسين أداء السوق ورفع مستوى الثقة بالهيئة. أود الإشارة إلى أن هذه حزمة سبق أن تناولتها أقلام كثيرة وسنستمر بدعمها إلى أن تتحقق على أرض الواقع. وضوح ودقة إجراءات التعامل تُؤطر لنموذج سوق فاعلة وواعدة تساعد على نجاح عمليات الاستثمار والتداول وتسهم بشكل جوهري في التخفيف أو منع عمليات الغش والتلاعب إذا ما أخذنا في الحسبان الخطوات المؤسسية الهادفة لدعم السوق المالية وترسية قواعدها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي