ليس للنفط سعر عادل
ما يُطلقُ عليه السعر العادل للنفط لفظ ليس له معنى على أرض الواقع، ولا يمكن أن يُحدَّد له سعر ثابت بواسطة أي أطراف معينة, فمنذ أن عرفنا النفط وأسعاره كانت تتذبذب صعوداً وهبوطاً دون أن تكون هناك يد أو جهة بذاتها تستطيع تثبيته عند مستوى مُتفق عليه. ولكن هناك سعرا مقبولا، كما وصفه وزير البترول والثروة المعدنية الأخ الفاضل علي النعيمي، وذكر منذ عدة أيام أن سعر البرميل "في الوقت الحاضر" عند حدود 75 دولارا يُعد مقبولا، ولم يقل عادلاً. والصحيح أن سعر برميل النفط يُحدِّده العرض والطلب، وإن كان هناك منْ يؤكدون أن السياسة تلعب دورا فاعلا في توجيه اتجاه الأسعار، وهو أمرغير منطقي. وربما أن المقصود هنا فعل الضغوط السياسية التي كانت تُمارسُ على المصدرين لزيادة الإنتاج وتوفير كميات أكبر من المطلوب في السوق النفطية من أجل خفض الأسعار، وكان ذلك ممكنا قبل أن يصل الطلب العالمي إلى مستواه الحالي.
وعند ما كان برميل النفط يُباع بثمن بخس خلال عقود طويلة، لم نكن نسمع أن أحداً من المستهلكين تحدث أو طالب بسعرعادل. وليس بخافٍ أن السعر العادل بالنسبة للدول المستهلكة هو أدنى مستوى تصل إليه قيمة البرميل، مثل ما هو حاصل اليوم، بدليل أن المسؤولين في هيئة الطاقة الدولية الذين يراقبون عن قرب حركة الأسعار يطلقون تصريحات تنادي بإثبات الأسعار الحالية المتدنية لفترة طويلة حتى تزول الأزمة المالية ـ على حد زعمهم. وهذا يتطلب من الدول المنتجة، وعلى وجه الخصوص، دول منظمة "أوبك"، ألا تتخذ أي إجراءات من شأنها تخفيض الإنتاج عن المستوى الحالي. وهم يدركون دون شك أن دوام انخفاض الأسعار سيضرُّ لا محالة بدخل الدول المصدرة ويتسبب في إلغاء كثير من المشاريع النفطية فيَطول تأثيرها السلبي الإمدادات المستقبلية.
ونُذكِّر أن نظرية العرض والطلب لم يكن بالإمكان تطبيقها خلال السنوات الماضية من عمر إنتاج النفط، ليس فقط بسبب الضغوط التي كانت تمارس على بعض المنتجين ليرفعوا إنتاجهم، بل أيضا بسبب تناقض وتعدد رغبات وسياسات الدول المصدرة، وهو الوضع الذي كان يؤدِّي في الماضي إلى زيادة المعروض في السوق النفطية. أما وقد اقتربنا من تساوي الطلب العالمي مع أقصى كمية للإنتاج، وهو ما ستتضح صورته عند ما تنقشع غمة الأزمة المالية الحالية، فمن المؤكد أننا سنشهد تطبيقا عمليا لنظرية العرض والطلب. أي أن سعر برميل النفط سيعود إلى الارتفاع بقدر يتناسب مع الفارق بين كمية الإنتاج العالمي القصوى وكمية الطلب على النفط. ولا نعلم أيَّ وسيلة تستطيع حينئذٍ الحد من ارتفاع الأسعار إلى مستويات خيالية إلا في حالة واحدة، وهي وجود مصادر جديدة ومناسبة لتوليد الطاقة بجانب النفط، وتكون أسعارها منافسة لأسعار النفط و مقبولة اقتصاديا و بيئيا.
ومع استحالة تحديد سعر النفط في أي وقت عند مستوى معين ومتفق عليه من قبل المنتجين والمستهلكين، فإنه وعلى كل حال، ليس في مصلحة المصدرين على المدى البعيد أن يُحدَّد للنفط سعر ثابت، بينما أسعار البضائع والصادرات الأخرى تُترك لها حريِّة الصعود وقيمة العملات تتغير سلبا وإيجابا. ولو فرضنا جدلا إمكانية الاتفاق على مستوى معين من الأسعار، فلن يكون من المتيسر للمنتجين في المستقبل أن يطلبوا سعراً أعلى, ولذلك فمن الأفضل لنا خلال السنوات المقبلة, التي من المؤكد أنها ستشهد نقصا في الإمدادات، أن ُيترك سعر النفط حراّ كما كان عليه في الماضي.
ولعل النفط هو السلعة الوحيدة التي لم يصل ثمنها عبر العقود السالفة إلى مستوى قيمته الحقيقية, حتى عند ما وصل سعر البرميل في العام الماضي إلى ما فوق الـ 147 دولاراً، فقد كان في الواقع يساوي أكثر من ذلك للأسباب التالية:
أوَّلاً: النفط مادة ناضبة، ومعدن نادر، وسعر المادة الناضبة يجب ألا يقارن بأسعار المواد المتوافر مصدرها على الدوام أو يتم تصنيعها من مواد أولية متوافرة, ولا يمكن أن يقدِّر العالم قيمة النفط الحقيقية إلا بعد نضوبه، وهذا ما لا نود انتظاره.
ثانياً: يجب أن نقارن أسعار النفط, كمصدر للطاقة, بتكلفة مصادر الطاقة البديلة الأخرى أو قريب منها. فلا يصح أن ينظر إليه بذاته كسلعة عادية، لأنه دون جدال، شريان الحياة العصرية الذي لا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال حتى يهيِّئ الله لنا ما يقوم مقامه من المصادر الأخرى.
منذ بداية عصر استخدام النفط كوقود للمحركات وتوليد الطاقة الكهربائية في البلدان الصناعية في أوائل القرن الماضي، والقوى العظمى تفرض سيطرتها على السوق النفطية عن طريق شركاتها التي كانت تدير معظم مرافق إنتاج النفط. ومنذ ذلك الوقت وإلى عهد قريب وهي تنشر الدعايات والأكاذيب بأن أسعار النفط يجب أن تظلَّ دائماً في مستوى متدن حتى لا يؤثر ذلك في نمو الاقتصاد العالمي، وإلا فإنهم سيستغنون عنه ببدائل أخرى إذا ارتفعت
أسعاره فوق المستوى الذي هم يريدونه. وكانوا يطلقون عبارات التهديد المشهورة التي كانت فعلاً تخيفنا، وهي "اشربوا نفطكم"، وكان بعضنا يصدق مثل تلك المقولات. وربما لأنه لا يزال هناك منْ يعتقدون أن العالم يستطيع الاستغناء عن النفط قبل نضوبه، وهو ادعاء غير صحيح على الإطلاق ولا يقبله المنطق السليم. وأكبر دليل على ذلك وصول سعر البرميل إلى مستواه القياسي الأخير، وهو أضعاف ما كان عليه منذ سنوات قليلة. ولم يؤثرذلك الارتفاع لسعر النفط في الاقتصاد العالمي كما كانوا يدَّعون. والأزمة المالية المرعبة التي أصابت المراكز المالية في أمريكا ثم امتدت إلى معظم دول العالم، كانت بالدرجة الأولى ناتجة عن تسيب وتلاعب في المعاملات بين المؤسسات المالية المختلفة نفسها، وليس بسبب وصول سعرالبرميل إلى مستويات قياسية في منتصف عام 2008. وما علينا الآن إلا الانتظار لمدة ربما لا تطول كثيراً حتى نرى الأسعار وقد اتجهت من ذاتها نحو طريق الارتفاع التدريجي.