تسييس القضاء...! "محكمة الجنايات الدولية أنموذجاً"
رضي الله عن الخليفة الراشد عمر, فقد كان وقافاً عند حدود الله تعالى, ملتمساً رضا الله تعالى والدار الآخرة, ولذا كان مدرسة في الإيمان والعبادة والعلم والقضاء, ينهل منها الدارسون, ويعب منها المتعلمون, ومن وثائقه العلمية التي تناقلها القضاة جيلاً بعد جيل: رسالته في القضاء إلى قاضيه في الكوفة, أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ, والتي رسم فيها منهج القضاء العادل النزيه, وهي تمثل اليوم دستوراً قضائياً جاهزاً للتطبيق, ولهذا لاقت استحسان أهل الشرق والغرب, ونشرت في بعض الجامعات الغربية, ومما جاء في هذه الرسالة:"... آس بين الناس في مجلسك, وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك, ولا ييأس ضعيف من عدلك..., ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم, فراجعت فيه رأيك, وهديت فيه لرشدك, أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل..., وإياك والغضب, والقلق, والضجر والتأذي بالناس, والتنكر عند الخصوم؛ فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر, ويحسن به الذكر..." إنها كلمات من نور, جمعت بين جزالة المعنى, ووجازة اللفظ, ونأت بالقضاء عن كل ما يمس سيادته واستقلاله, أو ينحرف به عن مسار العدالة, وينجرف به إلى دروب الظلم, وقد اهتم العلامة ابن القيم بهذه الرسالة, فشرحها في كتابه الكبير إعلام الموقعين..., وهل هناك أعظم عدالة, من أمر القاضي بالعدل بين الخصوم في لحظه ونظره, وفي مجلسه وكراسي خصومه؛ لئلا يخص أحداً من الخصمين بجلسة, أو نظرة عابرة, فيطمع فيه ذو الجاه, ويخاف منه ذو الطمرين, فيهتز عرش العدالة, ويتسلل إلى النفوس هاجس الظلم والحيف, ولهذا حسم الخليفة الراشد هذا الباب حين أمر قاضيه على الكوفة أن يعدل بين خصومه في كل ما دق وجل, حتى يطمئن قلب المظلوم فيبوح بعدالة قضيته, ويشرح ظلامته, ويهاب منه الظالم فيتراجع عن جسارته على الظلم..., وبهذا غرس عمر في شعور قاضيه هيبة القضاء, وخطره؛ لئلا ينحرف أبو موسى عن جادة الطريق, أو ينحرف به عن مسار العدالة, وهو هاجسه الوحيد, رضي الله عنه وأرضاه.
وفي عصرنا الحاضر لم تعد دوافع ظلم القضاة قاصرة على الأفراد, بل تطور الظلم, وأصبح اليوم ناشئاً عن دوافع دولية, وخلفيات سياسية, وظل تسييس القضاء علامة بارزة على بعض المحاكم القضائية, حيث أضحت السياسات الجائرة بوابة للتدخل في القضاء, والانحراف به عن مساره...! كما تمارس ذلك واضحاً وجلياً محكمة الجنايات الدولية, والتي تجاهلت ما قام به مجرمو الحرب الإسرائيليين من مجازر وحشية ضد الرجال والنساء والأطفال, في غزة, وما صنعوه من محرقة (الهولوكست), ثم فجأة, خرجت من قمقمها, ورفعت (شعار) العدالة فوق رقبة البشير- رئيس السودان- معلناً مدعيها العام تورطه في جرائم حرب وإبادة...!
وهكذا في ظل الأوضاع السياسية الجائرة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط برعاية الولايات المتحدة, وفي ظل الحروب الجائرة التي لم تحقق أهدافها, بدأنا نسمع عن حالة جديدة, يقنَّن فيها التدخل في سيادة الدول عبر لوائح الدعاوى الجائرة...!
ورحم الله الطبري حين ساق في كتابه (تاريخ الرسل والملوك 6/567): قصة عجيبة ترسم معالم عدل القضاء الإسلامي قبل أكثر من 1300 عام, حيث قال ما نصه: "قال أهل سمرقند لسليمان بن أبي السري- عامل عمر بن عبد العزيز عليها- إن قتيبة بن مسلم (القائد العسكري) غدر بنا, وظلمنا, وأخذ بلادنا, وقد أخذ الله العدل والإنصاف, فائذن لنا, فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكو ظلامتنا, فإن كان لنا حق أُعطيناه, فإن بنا إلى ذلك حاجة, فأذن لهم, فوجهوا منهم قوما, فقدموا على عمر, فكتب لهم عمر إلى سليمان بن أبي السري: (إن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلماً أصابهم, وتحاملاً من قتيبة عليهم, حتى أخرجهم من أرضهم, فإذا أتاك كتابي هذا, فأجلس لهم القاضي, فلينظر في أمرهم, فإن قضى لهم فأخرجهم- أي أخرج المسلمين- إلى معسكرهم, كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة) قال: فأجلس لهم سليمان: جُمَيع بن حاضر, القاضي الناجي, فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم, وينابذوهم على سواء, فيكون صلحاً جديداً, أو ظفراً عنوة, فقال أهل السند: بل نرضى بما كان, ولا نجدد حرباً, وتراضوا بذلك, فقال أهل الرأى من السمرقنديين: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم, وأَمِنُونا وأَمِنَّاهم, فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر, وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة, فتركوا الأمر على ما كان, ورضوا ولم ينازعوا".
وهكذا, لم يكن بقاء السمرقنديين على غير ملة الإسلام, ولم تكن توجه دعواهم ضد قائد بارز من قادة المسلمين سبباً في تسييس القضاء, وتدخل أمير سمرقند (سليمان بن أبي السري) أو خليفة المسلمين (عمر بن عبد العزيز) في عمل القاضي (جميع بن حاضر), بل حكم القاضي لصالحهم, وقضى بخروج المسلمين من أراضيهم, فيا لها من عدالة تتجاوز حد الشعارات واللافتات..!
وإذا كان ليس بمستغرب على محكمة الجنايات الدولية أن تمارس هذا الصنيع ضد خصومها السياسيين, وألا ترفع رأساً لرسالة عمر؛ لأنها لا تؤمن برسالة الإسلام العادلة.
فالغرابة كل الغرابة أن نرى من (بعض) قضاتنا من يتجهم لبعض الخصوم, فيغضب لأدنى سبب, ويضجر ويزمجر خارجاً عن حدود اللياقة والأدب, ويتأذى بالناس, ويتنكر عند الخصوم؛ ناسياً أو متناسياً قول عمر في رسالته العظيمة: "وإياك والغضب, والقلق, والضجر والتأذي بالناس, والتنكر عند الخصوم؛ فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر, ويحسن به الذكر" وإن كنا نعلم جيداً أن القاضي مثقل الظهر بكثرة الخصومات, وتنوعها, ولا سيما في المحاكم العامة في المدن الرئيسة, إلا أن هذا لا يبرر أبداً الانجرار إلى مثل هذه الممارسات, والله من وراء القصد.