حداثتنا بلا آباء

إن للرواد بكل تأكيد مكانتهم الرفيعة في نفوسنا، لكني أشير هنا إلى علاقة روادنا بحداثتنا من حيث الأبوية الفكرية أو الفنية، أي من حيث تأثير الرواد في حركة الحداثة المحلية.. وحتى لا يُساء فهمي فإن ما قام به الأجلاء الرواد حمد الجاسر, عبد الله بن خميس، أحمد السباعي، عبد الكريم الجهيمان، عبد القدوس الأنصاري، عبد الله عبد الجبار، محمد حسن عواد، أحمد عبد الغفور عطار، حسين زيدان، عزيز ضياء، وغيرهم من مبادرات مبكرة في إنشاء حركة الطباعة والنشر الصحافي أو في التأليف وتدشين حراك ثقافي من الصفر، في زمن كان فيه فك الحرف يصارع في مدارس محو الأمية.. هو عمل فوق الظن وفي صدارة الامتنان والتقدير. إلا أن ذلك شيء وعدم تأثيرهم في حداثتنا شيء آخر.
بل إن أثرهم لم يمتد حتى فيمن جاءوا بعدهم وجايلوهم أيضا من الأكاديميين الأفاضل أمثال الدكاترة منصور الحازمي، محمد الشامخ، عبد الرحمن الأنصاري، أحمد الضبيب، عزت خطاب، وغيرهم من الأدباء والشعراء وكلهم ممن يمكن أن نطلق عليهم جيل القنطرة الذين لم يكن لهم كذلك تأثير يُذكر في جيل الحداثة.
كان الرواد بالأساس أبناء غيرة وتطلع في أن تكون لبلادنا حياة ثقافية إحيائية كالتي تعج بها مصر وبلاد الشام والعراق، لذلك بدت كتاباتهم معنية بذات القضايا الفنية، والفكرية، خصوصا الأدبية والتاريخية التي كانت تمور بها صحافة الثلاثينيات من القرن الماضي، وما بعدها، ومع تميز لبعض منهم في البلدانيات كالجاسر والأنصاري وابن خميس أو في الموروث الشعبي كالجهيمان وفي محاولة التأسيس النقدي كعبد الجبار وفي القصة والمسرح كالسباعي أو الترجمة عند عزيز ضياء..
فيما عني جيل القنطرة بتمرير ثقافة الغرب ومدارسه إلى ثقافتنا نقلا عن العرب وليس مباشرة من الغرب، فأتت تجد في كتاباتهم أصداء مدارس (أبوللو) و(الديوان) وتنظيرات محمد مندور ومعارك العقاد وطه حسين والرافعي وكذلك أصداء مدرسة المهجر وتداعياتها.. لكنك لا تعثر على كتاب غربي أو مجاميع قصصية أو دواوين شعرية أو أطروحات نقدية ترجمت لمؤلفين من أمريكا أو أوروبا، عدا النادر مثل (صور شعرية) للدكتور عزت خطاب.
لقد كان جيل القنطرة خالي الأثر من الرواد، فأنت لا ترى في الحازمي أو الشامخ أو عبد الرحمن الأنصاري، أو الخطاب أو الضبيب أثرا من أسلوب أو أفكار أو منهج الرواد.. إلا أن جيل القنطرة تميز برصانة الدرس والانضباط المنهجي بحكم الدراسة العلمية في الخارج، لكننا فقدنا في معظمهم، رغم ما قدموه في مجال الدراسات الأدبية والتاريخ مشاريع كتاب ونقاد مميزين، وكان الحازمي أحد أبرز النقاد الذين خسرناهم، فقد كان الرجل يتميز بحاسة نقدية بارعة وموضوعية حيادية فائقة، لكنه على ما يبدو آثر الانسحاب من عالم النقد استنكافا من لجاجة شللية ابتليت بها ساحتنا في الثمانينيات وما بعدها.
كذلك لا ترى في المتقدمين من الحداثيين أي ملمح من أساليب وأفكار الرواد ولا حتى من جيل القنطرة ولا أثر لهما أيضا في الحداثيين الذين جاءوا من بعد .. فليس في شعر محمد العلي، ناصر أبوحيمد، القرشي، كتابات عبد الله نور، سعد البازعي، عبد الله الغذامي، سعيد السريحي، ولا في أشعار علي الدميني، عبد الله الصيخان، محمد الحربي، محمد الثبيتي، ولا في قصص محمد علوان، عبد الله باخشوين، عبد الله السالم، جار الله الحميد، صالح الأشقر، وغيرهم أي سمة أو ملمح يمكنك ضبطه والإشارة إليه باعتباره صدى لقصيدة العواد أو قصة السباعي أو نقد عبد الجبار ولا حتى إضرابهم من جيل القنطرة.
وهكذا .. فجيل الحداثة ليس ابن الرواد ولا ابن جيل القنطرة .. إنما هو مخاض الحراك الثقافي العربي في تحرره من أغلال الشروط التقليدية الفنية والبلاغية كما هو ابن مجازفاته الذاتية وجسارته وصراعه مع نفسه في المنافسة والتجريب وقد شق عصا طاعة الوصايات الأدبية والفكرية ورمى نفسه في حمأة الصلصال وأخذ يشكل بحماس مخلوقاته الفنية تحت وهج ذائقة نضجت في مصهر ثقافة كونية أججها توق المبدعين من العرب وغيرهم ومن الحداثيين المحليين أنفسهم لاجتراح نصوص مما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!!
وبصراحة صرفة .. حمل الحداثيون على عواتقهم أبوتهم لأنفسهم محليا وإن كانت لهم بحكم التثاقف العربي أبوة عربية رموزها بدر شاكر السياب، بلند الحيدري، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة، سعدي يوسف، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، أمل دنقل، صلاح إبراهيم، نزار قباني، أدونيس، محمود درويش.. إلخ، أما الأبوة الغربية فمن إليوت إلى أديت سيتول، إلى وايت مان، ومن البرتومورافيا إلى ماركيز ومن بارت إلى ميشيل فوكو.. إلخ.. أي أن حداثتنا أبوتها شرقاً ومغرباً ولا آباء محليين لها .. فهل في ذلك ضير؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي