الخلط بين فقه المعاملات التجارية والمالية والاقتصاد الإسلامي "3 من 3"
هناك فتاوى ومناقشات وبحوث ذات طبيعة فقهية في أمور مالية صادرة ليست من فقهاء، بل من اقتصاديين، أو قانونيين أو محاسبين أو ممن يسمون بالمتخصصين في الاقتصاد الإسلامي، ويجمع بين كل هذه الفتاوى والدراسات مسمى اقتصاد إسلامي. وقد يفهم من ذلك أن شروط ومتطلبات الإفتاء في المعاملات المالية تختلف بعض الاختلاف عما هو مطلوب للاجتهاد والإفتاء العام. كما أنه يمكن تعميم المنهج، فيتاح للأطباء الإفتاء في المسائل الفقهية ذات الطبيعة الطبية أو الصحية، وللمتخصصين في الأمن والإجرام الإفتاء في قضايا الجنايات والقصاص، وهكذا. وهذا منهج ليس له أساس شرعي.
وفي المقابل، مؤلفو كثير من البحوث والمناقشات التي تحمل اسم الاقتصاد الإسلامي فقهاء. وأولئك الفقهاء لم يجمعوا مع الفقه تعمقا في علم الاقتصاد، وعادة لا يعرفون شيئا ذا بال في أدوات التحليل الاقتصادي، وأحيانا تحوي مؤلفاتهم أخطاء (وليس وجهات نظر) أو لبسا في مفاهيم من جهة علمية اقتصادية، ويسهم سوء الترجمة في الوقوع في الخطأ أو اللبس.
وقد كتبت أول رسالة دكتوراه بما يسمى الاقتصاد الإسلامي، وفقا لهذا الفهم الذي يخلط بين فقه المعاملات التجارية والمالية والاقتصاد، وهي رسالة الشيخ الدكتور حمد الجنيدل في كلية الشريعة في الرياض مطلع هذا القرن الهجري وعنوانها "مناهج الباحثين في الاقتصاد الإسلامي". وقد اطلعت على الرسالة، ووجدت أن الأحرى أن تسمى "مناهج الباحثين في فقه المعاملات التجارية والمالية"، لأن جوهرها كان أصول فقه مع التطبيق على المعاملات التجارية والمالية، وقد بذل فيها المؤلف جهدا مضنيا.
ومن أوضح المؤلفات التي تنطبق عليها الإشكالات السابقة أيضا كتاب الدكتور علي محيي الدين القره داغي بعنوان "بحوث في الاقتصاد الإسلامي" (2006). الكتاب فقهي، يبحث بشيء من التفصيل في حكم التورق، والحلول والمخارج الفقهية لمعالجة الالتزامات في حالات التضخم (سماها علاج التضخم، وهي تسمية لها معنى مختلف كليا في علم الاقتصاد)، وفي جملة أحكام للأسواق المالية والأسهم ونحوها. وقد حوى غلاف الكتاب تعريفا بالمؤلف: "أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول في كلية الشريعة والقانون، جامعة قطر، وخبير الفقه والاقتصاد الإسلامي في مجمع الفقه الإسلامي".
المؤلف فقيه، ولم يجمع إلى الفقه التخصص في علم الاقتصاد، ولذا كان الأجدر أن يسمى الكتاب باسم من قبيل "بحوث في فقه المعاملات المالية المعاصرة"، كما من الأجدر أن يعرف المؤلف أنه "خبير الفقه، وفقه المعاملات المالية"، أو نحو ذلك، وهذا من باب عطف الخاص على العام.
ومن المؤلفات الفقهية أيضا كتاب الشيخ عبد الله بن منيع "بحوث في الاقتصاد الإسلامي"، وينطبق النقد السابق على كتاب الشيخ ابن منيع. وهنا أدعو الشيخ أن يغير العنوان إلى "بحوث في فقه المعاملات التجارية والمالية" أو نحو ذلك، وبتتبع ذلك بتغيير التعبيرات في الكتاب التي تثير اللبس، كما سبق إيضاحه.
ومن المؤلفات أيضا كتاب الدكتور عبد الله الطريقي، الأستاذ في قسم الدراسات الإسلامية في كلية المعلمين في الرياض "الاقتصاد الإسلامي أسس ومبادئ وأهداف" (1426 الموافق 2005). الكتاب في مجمله فقهي، فهو يركز على التعرض للأحكام الشرعية للملكية والإنتاج (كالمزارعة والاحتكار) وأحكام تخص وظائف الدولة الاقتصادية والإنفاق، وجملة من المعاملات التجارية والمالية. وقد جاء تعريف الاقتصاد الإسلامي في الكتاب تعريفا فقهيا: "العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية فيما ينظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته". وقال: ("فيما ينظم كسب المال... إلخ" يخرج الأحكام الفقهية الأخرى، والتي لا علاقة لها بالجوانب الاقتصادية كالصلاة والطهارة). من الواضح جدا أن هذا الكتاب وأمثاله من كتب الفقه أو الثقافة الإسلامية.
الخلاصة أن من الخطأ الصريح التعبير عن الفقه المالي وفقه المعاملات (الاقتصادية) بعلم الاقتصاد أو الاقتصاد الإسلامي، ومن الواجب التنبيه على هذا الخطأ وتصحيحه. ومن ثم فالنقاش ينبغي أن يكون عما إذا كان هناك علم اقتصاد إسلامي، وفق معنى وماهية علم الاقتصاد وليس علم الفقه، وهذا موضع حديث مستقبلي ـ إن شاء الله ـ وبالله التوفيق،،،