تقويض المنافسة ودعم الاحتكار لحماية الاقتصاد "الوطني"
مر اقتصادنا الوطني بمرحلة ترسخ فيها كثير من السياسات والمفاهيم الاقتصادية المبنية على مبادئ الوطنية، لكن لم يكن لها علاقة من قريب أو بعيد بأبسط مبادئ الاقتصاد. وهنا يجب التوقف قليلاً عند مسألة إدارة السياسة الاقتصادية بناءً على مبدأ الوطنية وما يمكن أن ينتج عنها من أمور قد تشوه وتضر بالاقتصاد الوطني نفسه الذي يمثل الشعب ركيزة أساسية من أركانه. إذ إن ذلك يعني ترسيخ بعض الاحتكارات لا بناءً على أسس اقتصادية يمكن أن تبرر تلك الاحتكارات كاقتصاديات الحجم التي تبرر الاحتكار الطبيعي، ولكن بناءً على عبارات طنانة مثل الناقل (الوطني) أو الشركة (الوطنية) أو حماية الاقتصاد (الوطني) أو غيرها في محاولة لتبرير تلك الاحتكارات والتكاليف الكبرى المترتبة عليها بناءً على مبدأ الوطنية.
هذا الأمر أدى إلى كثير من الرواسب الإدارية السلبية في بعض الشركات التي تم دعمها خلال فترة سابقة بحجة (وطنيتها) وما زالت تطلب وتتمتع بحماية الدولة لها بالحجة نفسها. مما جعل تلك الشركات تواجه صعوبة كبيرة في المنافسة في عالم لم يعد لمصطلح الاقتصاد الوطني فيه وجود، فكل شيء في هذا العالم أصبح اقتصادا فقط دون عبارة وطني. لكن مع الأسف أن نرى عودة مظاهر الدعم ولو بشكل خفي لتلك المفاهيم مع تفاقم الأزمة المالية العالمية. كما أنه من المؤسف أن نسمع عن دعم بعض المسؤولين لتلك المفاهيم من خلال محاباة تلك الشركات دون غيرها بحجة حماية الاقتصاد الوطني.
عودة هذه المظاهر تتمثل في الدعم غير المباشر الذي تلقته شركة الاتصالات السعودية من هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات بمنع منافسيها من تقديم خدمة التجوال الدولي المجاني. ولمصلحة من يتم اتخاذ هذا القرار؟ هل هو لمصلحة المستهلك (الوطني) أو خدمة المستثمر (الوطني)؟ حسب ما أعلم أن هيئة الاتصالات بررت ذلك بحماية الاقتصاد (الوطني)، ومرة أخرى نعود إلى اللغة نفسها التي استخدمت سابقاً لتبرير كثير من الاحتكارات على أسس (وطنية) دون اعتبار للمستهلك (الوطني) نفسه. ثم مم حماية الاقتصاد الوطني؟ من تحسن خدمات الاتصالات وانخفاض تكلفتها على المواطن أم ماذا؟ هنا أريد أن أؤكد على إخواننا في الهيئة وغيرهم ممن يحاولون تبرير سياساتهم بحجة حماية الاقتصاد الوطني. إذا أردتم فعلاً أن تحموا الاقتصاد فعليكم ضمان تحقيق المنافسة العادلة بين كل اللاعبين في نشاط اقتصادي محدد لا أن يتم منع تقديم خدمة من أحدهم بحجة أن الشركة الأخرى لا تستطيع تقديمها ثم يختزل مفهوم حماية الاقتصاد الوطني في هذه الشركة. المفاهيم في الوقت الحالي تغيرت، فبدل أن يكون المنتج أو مقدم الخدمة هو محور الاقتصاد، أصبح المستهلك هو المحور الأساسي الذي تدور في فلكه السياسة الاقتصادية. فلا يهم من سيقدم الخدمة سعودياً كان أو غير سعودي ما دام أن الخدمة أو السلعة ستقدم للمستهلك بأقل الأسعار وبأعلى جودة.
لذلك لم يعد من المقبول منح الميزة الاحتكارية أو الدعم والحماية بالمجان في قطاعات لا يحقق فيها الاحتكار أو تقييد المنافسة أي ميزة اقتصادية معتبرة للمستهلك كخدمات النقل الجوي أو النقل البري أو خدمات الاتصالات أو خدمة البريد السريع أو غيرها. لكن قد يكون من المقبول إعطاء تلك الميزة الاحتكارية ودعمها لقطاعات معينة في حدود منطقة جغرافية معينة إذا لم تكن هناك جدوى اقتصادية من تخصيصها بما يؤدي إلى عزوف المستثمر عنها, ومما يفرض على الدولة أن تضطلع بمهمة تأسيس تلك الخدمة كمشروع السكك الحديدية الذي تسهم الدولة حالياً في تمويله.
وعلى الرغم من الجهد الذي بذل من أجل التخلص من إرث الاحتكار التي تمتعت به مؤسسات بعينها بحكم رعاية الدولة لها مثل الخطوط السعودية أو شركة الاتصالات السعودية، إلا أننا ما زلنا كمواطنين نعاني تبعات هذا الإرث. ففي حالة الخطوط السعودية، ما زالت تتلقى الدعم من خلال احتكارها لتقديم خدمات النقل الجوي للقطاع الحكومي على الرغم من إمكانية توفير ذلك وبأقل تكلفة من خلال شركات الطيران الأخرى. كما أن ذلك يؤدي إلى معاناة للموظف الحكومي وعبء على ميزانية الدولة في حالة عدم توافر خطوط النقل إلى كل الدول. حيث يلتزم الموظف بتكبد عناء السفر على الخطوط السعودية إلى أقصى نقطة تصل إليها على الرغم من توافر بدائل أفضل وأقل تكلفة.
ومن المفارقات العجيبة أنه في لحظات كتابة هذا المقال، أعلنت شركة ناس القابضة تعليق رحلات طيران الخيالة بين كل من الرياض وجدة ودبي اعتبارا من أول نيسان (أبريل). وفي لقاء مع "العربية" برر الرئيس التنفيذي "الخيالة" ذلك بعدم جدوى استمرارية تقديم هذه الخدمة التي كبدت الشركة ما يقارب 200 مليون ريال من الخسائر، وكانت نتيجة للمعاملة غير العادلة التي تتلقاها شركته من الحكومة، في مقابل ما تتمتع به الخطوط السعودية من دعم. ودون الخوض في أي جدل يتعلق بهذا الخبر، أود أن أؤكد أن هذه واحدة من النتائج السلبية لسياسة دعم الاحتكار وتقويض المنافسة الذي تميز بها بعض الشركات دون غيرها.