رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لا ابتزاز على طاولة مفاوضات التجارة الحرة..!

منذ 18 عاماً ودول الخليج تفاوض دول الاتحاد الأوروبي؛ للدخول معهم في تجارة حرة, وطوال هذه المدة والأوروبيون يماطلون دول الخليج في القبول باتفاقية التجارة الحرة؛ لأنهم لا يريدونها اتفاقية للتجارة فقط، بل يريدونها أن تشمل المجالات التجارية، والسياسية، والإنسانية, إضافة إلى الجوانب الاجتماعية...! كما جاء هذا صريحاً على لسان رودي كراتسا نائب رئيس البرلمان الأوروبي (في تصريحها المنشور في جريدة "الاقتصادية" يوم السبت الماضي, بعددها رقم 5626) مما ‏دعا دول الخليج لاتخاذ ‏قرارها‏ المشرف بعدم المضي في هذه المفاوضات, وإعلان قرار تعليقها مع ‏نهاية ‏العام الماضي 2008م, وهو موقف "يبيض الوجه", ويثير في النفس روح الإعجاب, أعني: حين لا تقبل دول الخليج بهذا الابتزاز الأوروبي الصارخ...! وأملنا أن يستمر الموقف على هذه الوتيرة, وليت الجهات المعنية تبحث عن بديل آخر عبر بعض البلاد الآسيوية كاليابان مثلا.
وإذا لم تقبل دول الخليج بهذا الابتزاز نهاية العام الماضي, فعدم قبولها اليوم مع تداعي الأزمة, وتدحرجها ككرة الثلج من باب أولى؛ لأن شركاتهم ومصارفهم الأوروبية تبحث عمن يشاطرها الخسارة, ويتحمل معها حوادث الإفلاس, ولو من خلال الأموال الخليجية, (ولا سيما السعودية التي لم تتضرر كثيراً بالأزمة...)
ودول الخليج حين ترفض الإملاءات الأوروبية, فإنها في الواقع تعزز من مكانتها, وترفع من شأنها؛ لأن الدول - أياً كانت - لا تحترم إلا سياسة القوة والممانعة, لا سياسة الانصياع للأوامر, والخضوع للإملاءات؛ لأن تخفيض سقف الممانعة, والخضوع لإملاءات الطرف المقابل, هو بلا شك مما يغريه بنا, ويجرئه علينا, ويجرنا نحو تحقيق مصالحه شيئاً فشيئا, أما سياسة رفع سقف الممانعة, ووضع الشروط الخليجية على طاولة المفاوضات, فهو مما يسهم في إنجاح المفاوضات لصالحنا, والدفع بها نحو تحقيق مصالحنا, وهذا كما أنه من ملامح نجاح المفاوضات - سواء على الصعيد الاقتصادي, أو السياسي, أو غير ذلك - فإنه أيضاً مما ألمح إليه الفقهاء منذ مئات السنين, ومنهم الفقيه الحنفي الكبير محمد بن الحسن - تلميذ أبي حنيفة ـ رحمهما الله تعالى - فإنه تحدث عن سياسة كتابة المفاوضات بقوله في كتابه السير الكبير (5/1693): "وينبغي للكاتب (لصيغة المعاهدات) أن يكتب ابتداء على أشد ما يكون من الأشياء, يعني على أحوط الوجوه, فإن كره المسلمون من ذلك شيئاً ألقوه من الكتاب؛ لأن إلقاء ما يريدون إلقاءه أهون عليهم من زيادة ما يريدون زيادته..., فلهذا يكتب في الابتداء بهذه الصفة, فإن قبلوا اليسير منه ألقى المسلمون منه ما أحبوا"أهـ وسياسة المفاوضات هذه (أعني: المطالبة بالأكثر للظفر بالسقف الأقل) مستفادة من قصة مفاوضة في غزوة الخندق, وذلك حينما أرسل عيينة بن حصن إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً: (تعطينا ثمر المدينة هذه السنة ونرجع عنك...؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا, قال: فنصف الثمر؟ فقال: نعم...) وهنا نلاحظ أنه عليه الصلاة والسلام خفَّض من سقف شرط عيينة مع كونه في موقف ضعف..! وفي آخر الحديث الشريف... ما يفيد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ غيَّر رأيه بعد مشاورة أصحابه قبل إتمام صفقة المفاوضات, ورفض إعطاءهم نصف الثمرة أيضاً, نزولاً عند رغبة أصحابه الذين رأوا أن هذه الصفقة لا يستحقها عيينة بن حصن ومن معه, حتى مع تخفيضها إلى النصف.., وأَخْذُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمشورة أصحابه يجسِّد النضج النبوي في تقبل الرأي الآخر, متى ما كان محققاً للمصلحة العامة.
وفي الظروف الحالية التي تمر بها دول العالم, وبالذات أمريكا وأوروبا, فإن دول (الاتحاد الأوروبي) قد تجد نفسها مضطرة لاستئناف مفاوضات التجارة الحرة مع دول الخليج - إن عاجلاً أو آجلا- علها تسهم في التخفيف من حدة تداعيات الأزمة, والتي عصفت بالعديد من شركاتهم ومصارفهم المالية, كما يشير إليه تصريح نائب البرلمان الأوروبي حين ذكرت (في التصريح المشار إليه) "أنهم يعملون على دراسة الاتفاقية بشكل أعمق من أجل إعادة البدء في المفاوضات..!", في مغازلة واضحة لدول مجلس التعاون, وهنا يجب على دول المجلس ألا ترفض الإملاءات الأوروبية, وحسب, بل ينبغي أن تفرض عليها شروطها الممكنة التي تحقق مصالحها العامة, وتحمي استثماراتها المحلية, وتعزز من مكانتها الدولية, ولو كان ثمن ذلك فشل المفاوضات الأوروبية الخليجية.
ومن هنا, فإن على الغرف التجارية السعودية التي تستقبل هذه الوفود الأوروبية؛ عليها دور مهم وكبير لا يقف عند حد الترحيب والتقاط الصور, وإنما عليها تعزيز موقف القوة, وتجسيد روح الممانعة, وتكميل هذا الدور الريادي المهم؛ لأنه يسهم في تعزيز مكانة المملكة, ويحمل الآخرين على احترامها, ووضعها في المكانة اللائقة بها, لا سيما أن فرض إملاءات سياسية واجتماعية وغيرها... في مفاوضات تجارية, هو تسييس لقضية اقتصادية, وتدخل في شؤون خاصة, لا يقبلها العربي ذو الأنفة, ولا يرضاها المسلم الذي يحافظ على ثوابته الدينية, وتقاليده وعاداته الاجتماعية, ولو جاءت تحت أي عنوان..., والله وحده الرزاق ذو القوة المتين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي