رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


المؤسسة.. من الشيخ حمد إلى الدكتور محمد

التغير الذي حدث أخيرا في قيادة مؤسسة النقد العربي السعودي "ساما"، وهي تعرف بهذا الاسم الجميل "ساما" وفي كثير من الأحيان أخذت اسم "المؤسسة" فقط، وتدل عليها وليس على غيرها في المملكة، كان تغيراً يجب التوقف عنده كثيرا، حيث إن آخر تغيير في هذا المنصب الحساس كان منذ أكثر من 27 عاماً. عين الشيخ حمد السياري في عام 1983م محافظا خامساً للمؤسسة خلفاً للشيخ عبد العزيز القريشي المحافظ الرابع في تاريخ المؤسسة ـ أطال الله ـ عمريهما، وظل في هذا المنصب حتى اعتبر عميد محافظي البنوك المركزية العالمية، وقد كرم الأسبوع الماضي من قبل لجنة بازل باعتباره عميد محافظي العالم. وقد كان أول تصريح لوزير المالية حول هذا التعيين أن السياسة النقدية لن تتغير. ولكن ليس هذا هو الموضوع، فكما ذكر الوزير السياسة النقدية لن تتغير وبينها وبين السياسة المالية تناغم فريد وواضح، تعد لدينا سياسة مؤسسات وليست سياسة أفراد، وهي من الحالات القليلة لدينا، أن نجد جهات حكومية تعمل وفق هذا النهج المؤسساتي. لكن التغير في الأفراد لا بد أن يأتي ببصمات هؤلاء الأفراد على عمل تلك المؤسسات. وهنا نود التحدث والحديث ليس عن السياسات النقدية والمالية بوجود هذا التغير، ولكن عن التغيرات المتوقعة.
أول من نلحظ في هذا التغير أن هناك امتدادا واضحا في النهج، حيث عمل الدكتور محمد الجاسر، محافظ المؤسسة السادس ولمدة 14 عاماً نائبا للمحافظ السابق الشيخ حمد السياري. وقد عملا معاً بشكل واضح ومتناغم طيلة تلك المدة، رغم الاختلاف الواضح بين الشخصيتين. فالشيخ حمد له شخصية ذات مواصفات منها الهدوء الواضح في تعامله، وفي نبرة صوته. وكذلك في ملامسته الجانب الإنساني في الشخص الذي يتحدث معه. فمهما يكن الشخص الذي أمامه تلاحظ النظرة الأبوية للشيخ حمد، والتفكير العميق في الأمور قبل التحدث، حتى وإن كان الحديث في شأن عام ولا يخص أمور العمل. وقد أكسبته السنوات الكثيرة من الوقار في تعاطيه مع الأمور والحوادث مهما كانت الأحداث. هيبته تأتي من حضوره الشخصي وليس من جلبة المرافقين له، الذين عادة ما يحيطون بعض المسؤولين، جحافل من الأمام وأخرى من الخلف تجعلك تشعر بالشخص مهما كان صغيرا في مقامه من تلك الجحافل! كان يأتي دون ضجة ويذهب بهدوء. لذلك نجد أن انتهاء فترة عمله ومغادرته كان بهدوء كبير أيضا، وكأنه انسحاب حريري من الحياة العامة والعمل الذي تجاوز 50 عاماً في خدمة بلده كرجل من رجالاتها المميزين. طيلة فترة عملي في المؤسسة ورغم أنه لم يكن هناك في بدايات عملي اتصال مباشر معه، إلا أنه تكون لدي شعور دائم مستمر إلى اليوم أن الشيخ حمد، ليس مسؤولا على هرم الجهاز الذي أعمل فيه ولكنه بحق أب. والد يتمتع بالقدرة على إضفاء مسحة حنان دون أن تشعر بأنه فعل شيئا، لتكوين هذا الانطباع. نسأل الله العلي العظيم أن يجزيه الله خير الجزاء وأن يمده بالصحة والعافية. ولدي طلب بسيط من الشيخ حمد، كما طلبت سابقاً من الشيخ محمد أبا الخيل، وهو أن يتحفنا نحن المتخصصين بكتاب أو مذكرات أتمنى أن يصدرها قريبا. وريقات تلخص لنا حياته العملية، نتخذ منها دروساً في دروب النجاح، ولتكن نبراساً لنا في المستقبل. ورغم أن الشيخ محمد أبا الخيل ـ حفظه الله ـ لم يلب طلبي حتى الآن، لكن ما زال الأمل يحدوني ويحدو الجميع في أن نرى مثل تلك المذكرات الغراء. مذكرات لنا ولأحفادنا، وللتاريخ في المقام الأول.
أما الدكتور محمد الجاسر، المحافظ الجديد لـ "ساما"، فبالقدر الذي نتحدث عن استمرارية السياسة النقدية من عهد السلف إلى الخلف، لأنها سياسة مؤسسات كما ذكرنا وسياسة دولة في النهاية، بالقدر نفسه سنلحظ تغيرات كثيرة في بصمات الدكتور محمد الجاسر في فكره والكيفية الذي سيعمل بها. لست في مقام المقارنة بين هامتين سامقتين، أو التفضيل بين طريقة وأخرى ولكن طبيعة الأشخاص واختلاف الشخصيات تفرض أن تكون لهم لمساتهم الخاصة على الأعمال التي يقومون بها. فللدكتور محمد كاريزما خاصة يتفرد بها عن مسؤولين كثر، وحضور قوي مميز، وهي إحدى المميزات التي يتمتع بها. وعندما أقول حضورا قويا، أعني حضور الشخصية، وحضور الذاكرة، وحضور الفكرة وحضور الحجة أمام أي موضوع نقاش. وهو الأمر ذاته الذي قد يجعلنا نعتقد أن يكون هناك حضور إعلامي أقوى للدكتور محمد على اعتبار أنه سيكون امتدادا لحضوره السابق في الوسط الإعلامي كنائب للمحافظ. كما أن للدكتور محمد مواقف واضحة شديدة في بعض الأحيان فيما يخص بعض القضايا ذات الاهتمام لدى الوسط الاقتصادي ولديه رؤية ثاقبة في هذا الخصوص.
ويكفي الإشارة إلى رسالة الدكتوراة لمعاليه والتي حصل عليها في عام 1986م، حيث كانت تحت عنوان رئيس هو "دور التطور المالي في النمو الاقتصادي، المملكة العربية السعودية كحالة" كانت إحدى أهم التوصيات التي خلصت بها رسالته هي إنشاء شركة معلومات ائتمانية Credit Bureau بهدف ردم الهوة في معلومات المقترضين بين المؤسسات المالية. وهو الذي أصبح اليوم حقيقة في الاقتصاد السعودي، حيث تعمل الشركة السعودية للمعلومات الائتمانية "سمة" على توفير معلومات كاملة عن المقترضين على المستوى الفردي والتجاري من خلال التقارير الائتمانية للأفراد المقترضين وكذلك التقارير التجارية لكل الشركات العاملة في المملكة. وهو الذي أعطى المؤسسة والمؤسسات المالية العاملة في نشاط القروض القدرة على ضبط عمليات التمويل بشكل مهني قائم على قياس المخاطر بشكل دقيق وفق ضوابط وتشريعات المؤسسة. تخيلوا الفرق اليوم بين وضع المملكة المالي مع هذه الأزمة المالية الخانقة بوجود سمة وبين دول إقليمية ليس لديها مثل تلك الآلية! الواقع والأخبار اليومية توضح الفرق وتعطي النتيجة بلا جدال. وهو ما يؤكد الرؤية البعيدة لدى الدكتور محمد الجاسر، وقدرته على استقراء المستقبل، منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي لجزئية يدفع العالم اليوم برمته ثمن التهاون في السياسات النقدية وإدارة القطاع المالي وفق رؤية واضحة من قبل الجهات الإشرافية والرقابية. وهو الأمر الذي حدث في أعتى دول العالم ويدفعون أثمانا باهظة أنقذنا الله منها، وإن كانت هناك رياح هذه الأزمة وصل إلينا بعض من تبعاتها، فيما يخص المستثمرين، ولكن القطاع المالي وبالذات المصرفي بقي بمنأى عن تلك الأزمة.
قريبا سنشاهد بصمات جديدة على عمل المؤسسة، تؤكد أحقية الدكتور الجاسر بهذه الثقة الملكية الغالية من قبل القيادة لأهم جهاز حكومي يعمل على ضمان الاستقرار النقدي وتطوير القطاع المالي. فوداعاً وشكراً من الأعماق للشيخ، ومرحى وحي هلا بالدكتور. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي