الجنادرية ودروسها التربوية

منذ 24 عاماً تطل علينا مناسبة الجنادرية في مثل هذا الوقت من كل عام. وفي كل مرة أزور فيها الجنادرية أجد وغيري الجديد من النشاطات والفعاليات التي تبعث في النفس الفخر, وتجدد النشاط والحيوية, وفي زياراتي وحضوري الندوات والمحاضرات كثيراً ما ينتابني سؤال مهم بشأن الدروس التربوية الممكن حدوثها أو السعي إلى تأصيلها في ذوات الناشئة, في نظرة شمولية على الجنادرية ماذا يجد الفرد؟ مكونات الجنادرية بصورة أساسية تركز على إحضار الماضي وعرضه على أبناء الحاضر الذين لم يتمكنوا من العيش في ذلك الماضي ويتفاعلوا مع عناصره المادية والثقافية. في الجنادرية يجد الفرد عرضاً حياً لمنازل الماضي بموادها وأثاثها وتصميمها, ويجد الفرد عرضاً للأزياء وأدوات الزينة, والأواني, وأدوات الطبخ, كما يجد عرضاً لأدوات الزراعة ونظمها, إضافة إلى عرض حي يقوم به أفراد من كبار السن وممن تتوافر فيهم مهارات الأعمال, والمهن اليدوية السائدة في مناطق المملكة المختلفة, حيث يرى الفرد النجارة, الخرازة, النسيج, الحياكة, وجميع الأعمال المرتبطة بمنتجات النخلة, التي تمثل شجرة رئيسة عاش معها إنسان الجزيرة العربية منذ آلاف السنين, وكانت نعم الرفيق له في مشوار الحياة حيث أمدته بالغذاء والفرش, والوقود وكل منتجات الخوص والليف وغيرها. أما الفولكور الشعبي للمناطق المختلفة والرقص واللباس, فهذه لها نصيب الأسد حيث تعرض الفرق القادمة من مناطق المملكة المختلفة وتظهر فنون الرقص المرتبطة بمناسبات مثل الحرب, والحصاد, وكل الظروف, وهذا جزء من المكونات المادية التي يحرص على عرضها بصورة عيانية للزوار. أما الشق الثاني الذي يزين هذه المناسبة فهو الأنشطة الثقافية المتمثلة في الندوات والمحاضرات, والشعر بنوعيه الفصيح والشعبي, وحسناً فعلت اللجنة المنظمة اختيارها موضوع حوار الحضارات كموضوع رئيس تركز عليه المناقشات والمداخلات, ما يضفي بعدا جديدا للجنادرية في تبنيها فكرة الانفتاح على الآخر وإسماعه ما لدينا, إضافة إلى الاستماع له, ومعرفة ما لديه من أفكار, ذلك أن هذه هي الوسيلة المثلى لإيصال الفكر, ومعرفة كيف يفكر الآخر, وماذا يشعر به. وإذا أخذنا مجمل هذه الأنشطة والمكونات بكاملها, وحاولنا أن نتعرف على آثارها التربوية في الجيل الحاضر, فماذا يمكن أن نجد؟ لنعترف أولا أن ما يتم عرضه على أنه من الماضي غريب وغير مألوف لأبناء الوقت الحاضر, ولا يعرفه إلا كبار السن الذين عاشوا ذلك الواقع, أو أدركوا جزءاً منه. وهذا في حد ذاته يعتبر درساً مهماً للجيل الحاضر, هذا الدرس يتمثل في إثارة أذهان الناشئة بشأن حياة آبائهم وأجدادهم, وكيف كانت قاسية وشديدة ومؤلمة في الوقت ذاته, إذ إن شح الموارد كان الصفة السائدة في الجزيرة العربية قبل عقود من الزمن, ولا نقول قرون. إن الناشئ وهو يقارن بين واقعه الذي يحياه في نوع مسكنه, وأثاثه, ولباسه, وأوانيه, ومواصلاته, وكل الجوانب الأخرى مع مكونات, وظروف حياة أسلافه سيدرك الفرق الشاسع بين الوضعين, وهذا درس بليغ لا بد من إدراك دلالته ومغزاه, فالوطن صحراوي محدود الموارد, وما مر به الآباء والأجداد من الممكن أن يتكرر ـ لا سمح الله ـ وعليه لا بد من أن نسأل أنفسنا: هل نحن قادرون على العيش في نفس الظروف والأوضاع التي عاشها أسلافنا؟! إن إدراك هذا الفرق بين الوضعين يستوجب تقدير وإجلال أسلافنا على صبرهم, وتحملهم المشاق حتى بنوا الوطن ليصل إلينا, وهو في أحسن الحالات والظروف. كما أن إدراك الفرق بين الماضي والحاضر يؤكد أهمية المحافظة على الثروات والنعم والسعي إلى التوفير فيها بدلاً من الإسراف والبذخ الذي قد يفقدنا إياها ـ لا سمح الله. أما الدرس الثاني الذي تقدمه هذه المناسبة فهو توظيف عناصر البيئة في كل مناحي الحياة, فالملابس وبيوت الشعر من أصواف, وأوبار الماشية, والبيوت من الحجر, والطين واللبن, وخشب الأثل, وسعف النخيل, وكذلك البسط, والأواني, وهذا يندرج على المآكل التي تعتمد في الأساس على المنتجات الزراعية من البيئة المحلية, والتي تعتمد في الأساس على القمح والذرة, والتمر, واللبن. ومع قلة الموارد تمكن إنسان هذا الوطن من العيش وتدبير الحياة.
الدروس التربوية لهذه المناسبة تتعدى إلى إكساب أبناء الجيل الحاضر لاستلهام الماضي والوعي بإيجابياته, وسلبياته وتوظيف ذلك الماضي بكل مكوناته لخدمة الحاضر والتخطيط للمستقبل, وهذا في حد ذاته يبعث على العزيمة, والإصرار لمواجهة التحديات مهما كانت سيراً على خطى الآباء النموذج الأمثل في تجاوز الصعوبات, والمشاق مهما بلغت ذروتها. إن ممارسة المهن السائدة في الماضي أمام الناشئة من شأنه أن ينقل الخبرة ويحافظ على هذه المهن بدلاً من اندثارها. كما أنه يكسر الاتجاهات السلبية إزاء بعض المهن ويشجع شباب الحاضر على الانخراط في المهن سعياً إلى سد حاجة المجتمع. ومن أجمل الدروس التربوية تكريم المخلصين من رجالات الوطن والعاملين الأوفياء, ولعل تكريم الدكتور عبد العزيز الخويطر شخصية هذا العام يجسد تقدير الوطن لمن يعمل بجد وإخلاص, وهذا درس عملي تقدمه الجنادرية, ودعوة للجميع للعمل الدؤوب.
إن الانفتاح على الآخرين ودعوتهم للمشاركة بأركان كما حدث مع روسيا الاتحادية هذا العام يمثل درساً تربوياً بليغاً يؤكد قيمة التواصل مع الآخرين والانفتاح عليهم بهدف التأثير فيهم, والاستفادة منهم في الوقت ذاته, ما يقوي العلاقات بين الأمم والشعوب, ويزيل ما يمكن أن يعكر العلاقات, خاصة إذا كانت هذه الشعوب لا تقف موقفاً معادياً لأمتنا وقضاياها المصيرية. إن طرح موضوع حوار الحضارات يجسد روح الانفتاح التي تتمتع بها أمتنا مقارنة بالأمم الأخرى التي لم يعرف عنها سوى الانغلاق, ونبذ الآخرين. ولو قارنا بين نزعة حوار الحضارات التي نطرحها منذ أن نزل القرآن الكريم "وجادلهم بالتي هي أحسن" وبين نزعة الآخرين لرفض الآخر, وعدم الاعتراف به, بل تأجيج الصراعات بين الأمم والشعوب من خلال أطروحات من مثل صراع الحضارات, ومن ليس معنا فهو ضدنا لأدركنا تفوقنا الحضاري وسمو ثقافتنا التي تحترم الآخر وتقدره ولا تصادر مكوناته الثقافية مهما اختلفت عنا "لكم دينكم ولي دين".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي