الاتجاه المعاكس

ليس هذا العنوان جولة لكمات موجهة للبرنامج المشهور بهذا الاسم في قناة "الجزيرة" ولا لصاحبه الدكتور فيصل القاسم، ومع ذلك، فما أريد طرحه هنا قريب مما يعنيه مضمون برنامج القاسم وبشكل أوثق أقرب إلى كلمة (جوركي): "جئت إلى العالم لأعترض"!
الاتجاه المعاكس أو الاعتراض مؤشران يدلان على التمرد ورفض الانقياد لما ليس في نطاق العقل والوعي، إنما، قد يكونان أيضا وسيلتين للتشهير والتشفي في حالات العجز عن تحقيق المنجز الفكري أو المادي. كما في الموقف من الغرب.. فعلى سبيل المثال، حين ترجم كتاب (شبنجلر) "تدهور الحضارة الغربية" إلى العربية في منتصف القرن الماضي تلقفه المثقفون العرب وأصاب بعضهم بحالة هياج غطت على بصائرهم فقد اعتبروه عريضة إدانة وسجل السوابق المشينة للغرب وأخذوه حجة دامغة صارمة على فساد حضارته وخراب تقدمه، وما زال بيننا من هو مسكون بذلك الهياج. على أساس (وشهد شاهد من أهلها) كما فعلوا الشيء نفسه مع أعمال فكرية وإبداعية أخرى مثل: (الغثيان) لسارتر، (المحاكمة) لكافكا (البحث عن الزمن المفقود) لبروست، (في انتظار جودو) لبيكيت، (عوليس) لجويس أو حتى مع كتب كولن ويلسون المتأخرة (اللامنتمي، ما بعد اللامنتمي، سقوط الحضارة، رحلة نحو البداية).
وعودة إلى "شبنجلر" فالأكيد أنه حين نشر كتابه، لم يدر في خلده (الحط) من التقدم أو هجاء الحضارة في الغرب. بل كان لشغفه بهما يقوم فقط بتسليط الضوء على ما رآه بحاجة إلى تقويم لكي يمضي الغرب في التحضر والتقدم أكثر، الشيء نفسه ما حدث معنا حيال مقالة صدام الحضارات لصوميل هننجتون وكتاب (نهاية التاريخ) لفرانسيس فوكو ياما فقد تعاملنا مع أقوال هننجتون بكتابات كيدية أكدت أن (الخبيث) هيننجتون استهدف بمقالته تلك الترويج لصدام الحضارات، وأصررنا على أنها خريطة طريق للسياسة الخارجية الأمريكية وصقور البنتاجون لكي يشعلوا حروبا دينية وبالذات حربا ضد الإسلام .. كان كثير من الحبر المدلوق على الصحف أو الأصوات الملعلعة في المنتديات ووسائل الإعلام مكرسا للهجوم على هيننجتون باعتباره محرضا مؤججا للصراع وليس بالنظر إليه كمفكر مستقل محايد كان يرى، يراقب، يدرس، يستشرف.. ولا ذنب له أن جاء سياق الأحداث مصادقا على ما حذر منه.. مثلما بالتأكيد لم يقصد فوكوياما إنهاء التاريخ، إكراما لعيون بوش الأب (داعية النظام العالمي الجديد آنذاك)، فقد كان فوكوياما أيضا يرى، يراقب، يدرس، يستشرف وجاءت الأحداث بالسقوط المدوي للمعسكر الشيوعي فذهب إلى أن الفائز بالمنافسة الاقتصادية السياسية هو النظام الحر الأمريكي، لم يستهدف إطلاقا سد مجرى التاريخ، إنما فقط وضع نهاية مجازية له بدليل أن الرجل عاد ففتح التاريخ مرة أخرى فتحدث عن رؤى أخرى بينها تأنيث التاريخ.
في السنوات الأخيرة تواترت إلى درجة الإملال، مصطلحات الحداثة، العلمانية، الديمقراطية، الليبرالية، الشفافية، حقوق الإنسان، العولمة، الخصخصة، اقتصاد المعرفة، التنافسية، اقتصاد السوق الاستراتيجية، وسجلت حضورا كثيفا في خطاب الفكر العربي المعاصر، وهي لم تجئ بسبب تغيرات نوعية في بنية المجتمع العربي أو تقدمه علميا ومعرفيا إنما كانت تعبيراً عن الكساد المعنوي وغياب المشروع النهضوي للأمة وقد شكل ذلك الوضع مجالا حيويا امتلأ فراغه باستهلاك نهم لتلك المصطلحات فدارت بها المطابع والألسنة، إلا أن الموقف منها كان متناقضاً تناقضاً فظيعا، فعلى قدر ما وجدت مريدين ومتحمسين لها وجدت، في الوقت نفسه، من كثيرين من أولئك المؤيدين (ويا للغرابة)، مناطحة ومزايدة.. أو قل تفيهقا فشهروا بها وتشفوا!!
والسؤال.. كيف زففنا تلك المصطلحات بشغف، باعتبارها إشراقات وامتيازات حضارية حققها الغرب.. ثم كيف استدرنا فجأة 180 درجة، ساعة الاصطدام مع أحد أطراف هذا الغرب، لتصبح هي ذاتها سوءات نعيرهم بها؟!
لماذا؟ لأنهم، مثلا، لم يردعوا هذا أو ذاك (من أبناء جلدتهم!!) عن أن يكون له رأي في فكرنا أو سلوكنا أو لأنهم لم يقفوا معنا يذودون عن قضايانا وما يحيق بأهلنا في فلسطين أو العراق أو لبنان من كوارث نيابة عنا؟! وهكذا.. فجأة يصبح الغربيون غير ديمقراطيين، عنصريين. إلخ.. كما أصبحت - حين انهار نظامهم المالي - الشفافية والسوق والعولمة فجأة أيضا زعما وتدليسا، متناسين أن الغرب نفسه (هو) من فضح أزمتهم بالاعتراف بها أولاً ثم استنفروا أنفسهم للبحث لها عن مخارج وليس البكاء على الأطلال!!
فيما نحن نتحدث عن الحوار والتسامح ثم نثابر على الصراخ في وجوه بعضنا بعضا أو القطيعة ونلعن الغرب الذي نسافر إليه زرافات ووحداناً للتمتع بربوعه كما نشجب التقدم والحداثة بينما بيوتنا، مكاتبنا، عرباتنا، ملابسنا، ما لذ وطاب لنا نتاج أوج التقدم والحداثة .. تماماً، كما قال الشاعر مضفر النواب: (قتلتنا الردة .. قتلتنا، إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده!!) نسير في الاتجاه المعاكس نقدح ما نمدح، فإما أن تنحاز لنا الأشياء والأمم، جملة وتفصيلا، على الهوى والمزاج وإلا فالتشهير والتشفي!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي