سكة الحديد والنقل العام

الخطوط الحديدية هي شريان الحياة في البلاد، ومن أهم المرافق الاقتصادية إذا ما أمكن استثمارها جيداً لتستحوذ على معظم النقل البري، وعلى وجه الخصوص بين المدن الرئيسة، إلى جانب نقل الركاب بطبيعة الحال. وقد أُنشئت سكة الحديد في المملكة قبل ما يقرب من 60 عاماً، ولم يتغير وضعها ولا طولها منذ ذلك الوقت، وبقي نشاطها محدوداً في نقل الركاب وقليل من البضائع، رغم زيادة عدد السكان والنشاط الاقتصادي أضعافاً كثيرة.
 وقد استبشرنا خيرا بعزم المسؤولين في الدولة ـ حفظهم الله ـ توسيع مرافق الخطوط الحديدية لتغطي جميع أنحاء المملكة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، في خطوة طموحة ربما لم تشهد المملكة مثيلاً لها من حيث ضخامة المشروع وفوائده الاقتصادية. وتذكرنا هذه الخطوة الجبارة بمشروع تجميع الغاز في المنطقة الشرقية في منتصف السبعينيات الميلادية، الذي ترتَّب عليه إنشاء المعامل البتروكيماوية والمصانع الأخرى في الجبيل وينبع. ونؤكد أن الاستثمار في هذا الوقت لإنشاء شبكة متكاملة من الخطوط الحديدية تربط أجزاء المملكة قرار مبارك وصائب، يؤيده توافر المال واتساع حركة النقل وزيادة عدد السكان، ويمثِّل إضافة مهمة للبنية التحتية. ولعله من حسن الطالع أنْ يأتي هذا المشروع الحيوي في عهد إدارة متميزة نشهد لها بالإخلاص والكفاءة.
ونظراً لأن مدننا متباعدة عن بعضها بسبب اتساع مساحة المملكة وكذلك قلة الكثافة السكانية، ما عدا منطقتي مكة المكرمة وجدة، فإن نقل البضائع يجب أن يكون في بادئ الأمر المهيمن على استخدام ونشاط الخطوط الحديدية فليس من المتوقع في الوقت الحاضر أن يكون هناك سوق كبيرة لنقل الركَّاب، خصوصاً أن نسبة عالية من سكان المملكة يمتلكون مركبات خاصة ويفضلون استخدامها أثناء سفرهم، أضف إلى ذلك تدني سعر "البنزين"، مما يشجع المواطنين على قيادة مركباتهم مسافات طويلة.ً وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن نقل الركاب بواسطة القطار ليس له مستقبل ولا أهمية فعندما ترتبط مدن المملكة بخطوط حديدية متطورة ويسير القطار بسرعة تزيد على 200 كيلومتر في الساعة، فليس هناك شك في إمكانية جذب المواطنين إلى استخدامه كوسيلة للسفر، حيث ارتفاع نسبة الأمان إذا ما قورن بقيادة المركبات على الطرق السريعة. ونحن نعلم أن من الأهداف الرئيسة لتوسعة مرافق الخطوط الحديدية وإيصالها إلى معظم المدن الكبيرة خدمة المواطنين وتسهيل أمر سفرهم من مدينة إلى أخرى بأمان واطمئنان.
ونشاهد اليوم مئات الألوف من الشاحنات الكبيرة وهي تسير على الطرق الرئيسة العامة جيئة وذهاباً، محملة بمختلف البضائع والمواد الثقيلة. وعددها في ازدياد مستمر، مما ينذر بحدوث أزمة خطيرة على الطرق الرئيسة تمس سلامة المسافرين وترهق أرضية الطرق، فترتفع تكلفة صيانتها الدورية.
وفي نظرنا، فإن استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه، مع ما سيضيف المستقبل من زيادة في عدد الناقلات، سيكوِّن عبئاً اقتصادياًّ ثقيلاً على الاقتصاد الوطني فنحن ندفع بلايين الريالات بالعملة الصعبة لمصنِّعي المركبات الثقيلة، ونستخدم مئات الألوف من الأجانب لقيادة تلك المركبات، وهم أيضا يستنزفون قسماً من اقتصادنا، ولوجودهم في وسط مجتمعنا آثار سلبية كثيرة. وتحرق وسائل النقل الثقيل مئات الألوف من براميل مشتقات النفط يومياّ بأسعار مخفضة إلى أدنى مستوى، تبلغ قيمتها الحقيقية في السوق العالمية عشرات الملايين من الدولارات، إلى جانب تدمير الطرق ومضاعفة تكلفة صيانتها وتلوِّث البيئة نتيجة لاحتراق وقود تلك المركبات.
فلو أخذنا في الحسبان جميع تلك العوامل لوجدنا أن تحويل معظم وسائل النقل الثقيل من المركبات الحالية التي تكتظ بها طرقنا إلى عربات الخطوط الحديدية أجدى اقتصادياًّ، ويُسهم كثيراً في تحسين أمور السلامة على الطرق الرئيسة. ويجب أن يكون هدف دراسة الجدوى الاقتصادية لتوسعة مرافق الخطوط الحديدية المصلحة العامة والمردود المالي على الاقتصاد الوطني وليس فقط المردود النقدي على مبالغ الاستثمار المباشر، وذلك بالأخذ في الحسبان جميع العوامل الاقتصادية السابقة. وإذا انتقل قسم كبير من مسؤولية النقل البرِّي إلى مصلحة الخطوط الحديدية، فإنه من المؤكد أن نسبة كبيرة من العاملين في هذا المرفق سيكونون من المواطنين، وهذه إضافة إلى المميزات الاقتصادية الكثيرة التي ذكرناها.
ومن المعلوم أن وسائل النقل البري في الوقت الحاضر يمتلكها القطاع الخاص من أفراد وشركات، وأنهم ربما لا يكونون في حالة رضا تام من تغيير الوضع الحالي وتحويل أكبر كمية ممكنة من نقل الأحمال الثقيلة إلى الخطوط الحديدية، لأنهم سيفقدون نسبة كبيرة من أرباحهم، وهو بطبيعة الحال أمر مفهوم. ولكن يجب أيضا أن نقدِّم المصلحة الوطنية العامة، وألا نغفل التأثير السلبي المتزايد في الاقتصاد الوطني لو استمر النقل بواسطة المركبات. كما أن انتقال حمل البضائع والأحمال الثقيلة إلى مرافق الخطوط الحديدية سيكون على مراحل وبالتدريج على مدى عشرات السنين، مما سيعطي أصحاب النقل مهلة طويلة من أجل تحويل جزء من استثماراتهم إلى أعمال ومصالح أخرى. وعندما تنتقل مسؤولية نقل معظم المواد الثقيلة بواسطة شبكة الخطوط الحديدية فسوف يكون هناك حاجة إلى نقلها محلياًّ بواسطة المركبات عبر مسافات قصيرة إلى مخازن أصحاب تلك المواد، مما يخدم إلى حد ما مصلحة شركات النقل.
 وأهم ما كان يمنع في الماضي جذب النقل الثقيل إلى مصلحة الخطوط الحديدية ادِّعاء أصحاب المواد والمعدات الثقيلة أن النقل بواسطة المركبات أقل تكلفة وأيسر مناولة مما لو تم نقل بضائعهم عن طريق القطار. وربما كان ذلك صحيحاً في غياب وجود مرافق حديثة ومتكاملة وذات سعة كبيرة في المحطات الرئيسة لتسلم وتسليم مختلف البضائع دون عائق ولا تأخير. وبما أننا نتحدث عن المصلحة العامة والمردود العام على الاقتصاد الوطني وتشجيع أصحاب المواد على نقلها بواسطة القطار فيتعين أن يكون إيجار النقل مخفضا إلى مستوى يجعل تكلفة نقل البضائع أقل من تكلفة نقلها بوساطة المركبات، والعمل على تسهيل تسليمها إلى أصحابها بكفاءة عالية.
ونأمل أن يشجع تنفيذ هذا المشروع الكبير والطموح على إنشاء صناعات محلية لجميع أو معظم ما تحتاج إليه الخطوط الحديدية من مواد لبناء مسارات القطار وعربات نقل الركاب والبضائع وقطع الغيار.
 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي