المذاهب الأربعة الحاضرة.. والأذهان الغائبة!
دهشت حينما سمعت خبراً هنا, وتصريحاً هناك, عن افتقار مؤسساتنا العلمية والتعليمية إلى المدارس الفقهية الأربعة, سواء في هيئة كبار العلماء, أو في المعهد العالي للقضاء, أو في كليات الشريعة المنبثقة من جامعة الإمام...! والمدهش هنا أن هذه المذاهب الفقهية الأربعة حاضرة بقوة في هذه المؤسسات العلمية والتعليمية منذ عشرات السنين, في الوقت الذي نكتشف فيه أن أذهاناً غائبة عن واقع ما يطبخ في هذه المؤسسات الكبرى منذ زمن بعيد...!
ولنقف برهة أمام هذه المؤسسات لنرسم واقعها لقرائنا الكرام:
أما هيئة كبار العلماء, فإن جميع قراراتها الشرعية تصدر بعد دراسة المسألة الفقهية المعروضة على الهيئة حسب الآراء الفقهية في المذاهب الأربعة, مستنيرة برأي أهل الخبرة في التخصصات ذات الصلة بالقضايا المعروضة على أصحاب الفضيلة, ومن الأمثلة على ذلك في قرارات الهيئة ما يلي:
في مسألة: "السعي فوق سقف المسعى "رأت هيئة كبار العلماء (بالأكثرية) جواز السعي فوق سقف المسعى, مستضيئين في هذا الحكم بآراء عدة في المذاهب الفقهية الأربعة, وما ذكروه في حكم الصلاة على سطح الكعبة, نقلاً عن الإمام السرخسي الحنفي, والدسوقي المالكي, والنووي الشافعي, وابن قدامة الحنبلي..., حيث خرَّجوا مسألة السعي في الأدوار العلوية على هذه المسألة..., وهنا نلحظ التجرد العلمي لدى أعضاء الهيئة, حيث يقع في بعض الأحيان تحفظ أو مخالفة من بعض أصحاب الفضيلة, فيصدر القرار أحياناً بالأكثرية, لا بالإجماع, وذلك في ضوء ما ظهر لكل عضو من رأي في المسألة.
في مسألة: "الشرط الجزائي" رأت هيئة كبار العلماء (بالإجماع) أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر, يجب الأخذ به, ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعد شرعاً, فيكون العذر مسقطاً لوجوبه حتى يزول, وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً, بحيث يراد به التهديد المالي, ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية, فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف, على حسبما فات من منفعة, أو لحق من مضرة, مستضيئين في هذا الحكم بآراء عدة في المذاهب الفقهية الأربعة, وما ذكروه في مسألة الشروط المقترنة بالعقد, وماهية الشروط المفسدة للعقود, والشروط غير المفسدة لها, نقلاً عن كتاب بدائع الصنائع للكاساني الحنفي, ومواهب الجليل للحطاب المالكي, ونهاية المحتاج للرملي الشافعي, والشرح الكبير لابن أبي عمر الحنبلي... إلخ (انظر إن شئت كتاب أبحاث الهيئة1/16-25, 153-214) وما تلاها من أبحاث, وقرارات.
وهكذا يجري النظر في كل المسائل المعروضة على هيئة كبار العلماء على هذا النسق, حيث تعد البحوث الفقهية على المذاهب الأربعة, ثم ترفع من اللجنة الدائمة للإفتاء لمجلس هيئة كبار العلماء, من أجل دراستها في ضوء المذاهب الأربعة, واتخاذ قرار بشأنها, ثم يكون الترجيح بين المذاهب الأربعة بما تؤيده الأدلة الشرعية, والمقاصد الكلية.
هذا بالنسبة لأسلوب دراسة المسائل..., ناهيك أن هيئة كبار العلماء وجد فيها منذ القدم عدد من العلماء المنتمين إلى بعض المدارس الفقهية الأربعة, ومنهم العلامة الفقيه المفسر محمد الأمين الشنقيطي المالكي، والشيخ الأصولي عبد الرزاق عفيفي الحنفي، والشيخ الفقيه عبد المجيد حسن الشافعي، وهؤلاء من أقدم أعضاء الهيئة ـ رحمهم الله تعالى ـ وحتى لو فرضنا عدم وجود أعضاء ينتمون إلى إحدى المدارس الفقهية, فالعبرة بدراسة المسائل الفقهية المعروضة في ضوء هذه المذاهب الأربعة, وليس بوجود أعضاء ينتمون إلى هذه المدرسة, أو تلك.
أما بالنسبة للمعهد العالي للقضاء, فإنه يشتمل على قسمين رئيسيين: وهما الفقه المقارن, والسياسة الشرعية, وكل مناهجه ذات الصلة بالفقه تدرَّس على المذاهب الأربعة عبر كتاب الشرح الكبير لابن أبي عمر بن قدامة المقدسي, وكتابه هذا نسخة مرتبة للمغني, الغني بالمذاهب الأربعة, إضافة إلى تدريس مواد الأنظمة جنباً إلى جنب مع الفقه الشرعي, مما أعطى دراسة هذه المواد نكهة خاصة, ومذاقاً ذا طابع متميز, حيث جمعت الدراسة فيه بين الأصالة, والمعاصرة, ويبقى العبء ملقى على عاتق عضو هيئة التدريس, فمقل من هذه المذاهب, ومستكثر, وبكل حال, فشهادتي فيه مجروحة...
وأما بالنسبة لكليات الشريعة, فإنها تدرس الفقه عبر كتاب الروض المربع للبهوتي الحنبلي, ولكنه جرى العرف على تدريس الروض عبر حاشية الروض المربع للجد عبد الرحمن بن قاسم ـ رحمه الله, وهي حاشية نفيسة على المذاهب الأربعة, وهذا يدل على اهتمام هذه الكليات الشرعية بتغذية المناهج بالمذاهب الأربعة. وقد تحدثت عن كليات الشريعة ومناهجها عبر مقال خاص في جريدة "الاقتصادية".
مما تقدم, يتضح أن القول إن مؤسساتنا العلمية والتعليمية في حاجة إلى المذاهب الأربعة, قول يفتقد الموضوعية والدقة, ولا ينبغي لمن يجهل واقع هذه المؤسسات العريقة التحدث عنها بهذه السطحية, ولا سيما في وسائل الإعلام التي يشتعل فيها الخبر اشتعال النار في الهشيم, وقد تعطي هذه التصريحات والأخبار انطباعاً خاطئاً لدى بعض الناس, وهذا إن كان سائغاً في وقت مضى, فإنه لا يسوغ في هذا العصر الذي تتاح فيه القدرة على الوصول إلى المعلومة الصحيحة بأسرع وقت, أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, آمين.