هل تقدم جامعتنا ما يشفع لها في "المسؤولية الاجتماعية"؟
ما دعاني لكتابة هذا المقال عن المسؤولية الاجتماعية للجامعات في المملكة، ليس حاجة المجتمع للتطبيق السليم لهذا المفهوم فقط، ولا لأن كثير من الأفراد قبل المنظمات قد تخلوا عن دورهم الرئيس في خدمة المجتمع والرقي به، وإنما التطور الحاصل في فكر المجتمع من خلال تبني مفهوم "المسؤولية الاجتماعية" Social Responsibility وتداوله بين الناس على جميع الأصعدة. مفهوم المسؤولية الاجتماعية بني على نظرية أخلاقية تركز على أن لكل كيان في المجتمع دور يجب أن يُقدم لخدمة هذا المجتمع، والكيان قد يكون جهة حكومية أو جهة ربحية أو حتى أفراد المجتمع أنفسهم.
المسؤولية الاجتماعية للشركات Corporate Social Responsibility يعد من أكثر المفاهيم تداولاً في العالم في هذا العصر. لكن انخفاض المسؤولية الاجتماعية للأفراد والمنظمات الحكومية بما يلقي بالحمل على عاتق القطاع الخاص بمفرده فيه شيء من الإجحاف. لهذا دائماً ما أرى أن مبادرات تطوير المجتمع والرقي به في جميع المجالات تنبع من مراكز العلم والنور، بحكم أنها مؤسسات حكومية قائمة وتتواصل مع شرائح كبيرة من المجتمع، ولهذا فالحديث في هذا المقال سيتناول الدور المفقود للجامعات خصوصا ومراكز التعليم العام في خدمة المجتمع.
تُعرف المسؤولية الاجتماعية في إطارها الواسع على أنها أي نشاط يقدم من قبل المؤسسات الحكومية أو الأهلية لخدمة المجتمع. وحيث إن مفهوم المسؤولية الاجتماعية عادة ما يقترن بمجال الأعمال في القطاع الخاص، فإن البنك الدولي يٌعرف المسؤولية الاجتماعية أيضا أنها الالتزام بمساهمة صاحب المشروع في التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيه وأسرهم والمجتمع المحلي والمجتمع المحيط بكامله لتحسين مستوى معيشة المواطنين بأسلوب يخدم التجارة ويخدم التنمية في آن معا. وهذا التعريف مستمد من مفهوم فيلسوف الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث Adam Smith والذي أطلقه في القرن الـ 18 حين أشار إلى أن احتياجات المجتمع ورغباته ستتحقق على أفضل وجه بفضل التعاون بين المنظمات والمؤسسات الاقتصادية والمجتمع. وهذا المفهوم للمسؤولية الاجتماعية للشركات يُعد من أكثر المواضيع بحثاً تحت مظلة الحكم الرشيد أو ما يصطلح عليه بحوكمة الشركات.
إن مفهوم المسؤولية الاجتماعية لا يختلف كثيراً من حيث الأهداف أو المبادئ عن مفاهيم كثيرة في عمل الخير والعمل التطوعي، والتكافل والمشاركة الاجتماعية، وكل هذه المفاهيم لها أساس وجذور عميقة في الدين الإسلامي الحنيف، وذُكرت في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وعلمها رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ورسخت كقيم ومبادئ إسلامية عميقة لا يُستغنى عنها. فالقرآن الكريم والسنة المطهرة تحويان الكثير من الأدلة التي تحث على التكافل ورعاية مصالح الآخرين ومن ذلك قوله تعالى في سورة المائدة {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (آية 2)، ومن كلام المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم ستره الله يوم القيامة"، وغير ذلك كثير مما لا يتسع المقام لسرده، فالثقافة الإسلامية مليئة بالكثير من الكنوز الجميلة والتي تدعو وتؤيد هذا المفهوم الإنساني النبيل. من هذا يتضح لنا أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية الحديث لا يعدو كونه مفهوماً للتكافل الاجتماعي الذي جاء به الدين الإسلامي من أكثر من 1400 عام. لهذا يبرز استفسار عما إذا كانت المسؤولية الاجتماعية تقع على عاتق القطاع الخاص وحده؟ أم أنها مفهوم واسع يقع على كل أفراد المجتمع ومؤسساته المدنية؟.
لن أناقش الدور الفردي لأفراد المجتمع في المساهمة الاجتماعية، فهو دور يعيه ويفهمه كل مسلم، وهو دور يرتبط بالمواطنة والولاء للمجتمع الذي نعيش فيه. ولن أناقش دور القطاع الخاص الهادف للربح في المساهمة الاجتماعية، فالإعلام أعطاه حقه، والندوات والمؤتمرات الداعية لذلك ناقشته بإسهاب، وسأركز في هذا المقال على دور مؤسسات التعليم بشكل عام وعلى الجامعات بشكل خاص، بحكم أنها منارات العلم وأنها قامت في الأساس للرقي بالمجتمعات فكرياً وأخلاقياً.
مفهوم الخدمة الاجتماعية مفهوم قديم في عدد كبير من جامعات العالم، ولا تكاد تخلو جامعة من جامعاتنا المحلية من إدارة مستقلة تعنى بهذا الأمر وتوليه الحرص الوافي، وهو غالبا ما يقرن بالتعليم المستمر والذي يطغى على الخدمة الاجتماعية لهذه المؤسسات. لكن هذا المفهوم أيضاً يكاد لا ينجو من أخطاء التنفيذ في كثير من الأحيان ـ على الأقل من وجهة نظري ـ فعمادات ومراكز خدمة المجتمع في جامعاتنا أصبحت مراكز ربحية تهدف في المقام الأول لإيجاد عوائد مالية لا أظن أنها تعاد لتُصرف على المجتمع أو على النشاطات الرئيسة في الجامعات. فالدور المقدم من قبل كثير من المراكز لا يعدو كونه شراكة مع القطاع الخاص تنتهي بتقديم شهادات قد لا يُعترف بها وظيفيا وتمتاز بوجود شعارين للجهة المانحة "الأهلية" والجهة المعتمدة "الحكومية". وهنا لا أرى أن المجتمع حقق عائداً فعلياً، فالمؤسسة الأهلية هي من يحقق الربح الأكبر من خلال الاستفادة من الاعتماد الأكاديمي لبرامجها، والاستفادة من مرافق ومقدرات الجهة الحكومية أحياناً.
ومن خلال قراءة سريعة لمحتوى المواقع الإلكترونية لعمادات خدمة المجتمع أو مراكز التعليم المستمر، يظهر للقارئ الكريم ما سبق وذكر، حيث إن أغلب الأنشطة ترتكز على تقديم دبلومات تخصصية أو دورات عامة بمقابل مادي، وغالباً ما تكون مخصصة للقادرين مادياً، ولكنها لا تخدم كل شرائح المجتمع. بعض عمادات خدمة المجتمع قامت بتبني عدد من المساهمات والمشاركات التطوعية المحدودة والتي لا تخدم كل فئات المجتمع أيضاً، ولا ترقى لإمكانات هذه الجامعات والمساحات الشاسعة التي يفترض أن تخدمها. لهذا يتضح لن حجم القصور الذي يعانيه المجتمع من خلال غياب المساهمة الاجتماعية التطوعية للجامعات. وإذا كان هذا هو حال مؤسسات التعليم العالي، فإن مؤسسات التعليم العام لا يكاد يذكر لها أي مساهمات في هذا المجال، حتى ولو بالاستفادة من مرافقها المجهزة. فكأنما شيدت المباني المدرسية بملاعبها ومسارحها لغرض النشاط الدراسي اليومي فقط.
الخدمة الاجتماعية في مؤسسات التعليم العالي كمفهوم، يعد من المفاهيم القديمة، والتي أنشئت لها الإدارات المتخصصة للقيام بالتخطيط والتنفيذ للبرامج الهادفة لخدمة المجتمع والرقي به. لكن الواقع الحالي يعكس قصورا حاداً في مثل هذه الخدمات، لذلك يجب أن يُعطى هذا المفهوم دوراً أكبر، واهتماما مكثفاً لتتمكن جامعتنا ومؤسسات التعليم الأخرى من خدمة المجتمع ومشاركته في النمو، خصوصاً مع انتشار الجامعات في المملكة. فأكثر من 20 جامعة يجب أن تؤسس لفكر استراتيجي تنافسي يخدم المجتمع والوطن بشكل عام. ولأن هذا الجهد جهد بشري قابل للقياس وشغوف بالمنافسة، فإني أطمح إلى أن تؤسس وزارة التعليم العالي لهذا العمل المؤسسي وأن توليه أهمية كبرى من خلال تبني المبادرات التي تخدم المجتمع وإنشاء جائزة سنوية للجامعات السعودية للمنافسة على تقديم الخدمات الاجتماعية وبناء المجتمع. وستكون الأفكار كثيرة وقابلة للتطبيق حالما تجد الوعاء الذي يتبناها ويرعاها ويأخذ بيدها.
وليكن هذا هو ديدن المنافسة بين القطاعين الخاص والعام في الفترة المقبلة للنهوض بفكر الوطن وشبابه، وهذا ما نلمسه ونراه حقيقة في التوجهات والتطلعات الحكيمة لقيادة هذه البلاد.