أعيدوا للمساجد مكانتها

لقد أمر الله بالمسارعة إلى الخيرات، وحذر من إضاعة الأعمار والأوقات يقول تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
وكما تعلمون فإن الأوقات تمضي والأعمار تنقضي، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة لا تدرك بالتمني، ولا بشرف النسب، ولا بعمل الآباء والأجداد، ولا بكثرة الأموال والأولاد، قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه. فالجنة لمن آمن بالله وعمل صالحاً ولو كان عبداً حبشياً، والنار لمن كفر بالله ولو كان شريفاً قرشياً.
إننا نرى كثيرا ممن يتكاسلون عن الأعمال الصالحة وينشطون في طلب الدنيا ويتوسعون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي.
ولنضرب لذلك مثلاً في علاقة كثير من الناس بالمساجد وحضور الجمعة والجماعة، فنرى كثيرا يسكنون بجوار المساجد ولا يدخلونها ولا يعرفون فيها، يجاورون المساجد ببيوتهم ويبعدون عنها بقلوبهم، وذلك دليل على ضعف الإيمان في قلوبهم أو انعدامه، لأن عمارة المساجد بالصلاة والعبادة والتردد إليها من أجل ذلك علامة الإيمان. قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبه:18]، وقال النبي: {إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان} وتلا هذه الآية.
ترى هؤلاء يملأون الأسواق ويأكلون الأرزاق، ولا يتجهون إلى المساجد ولا يشاركون المسلمين في إقامة شعائر الدين "اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ" [المجادلة:19]. حرموا أنفسهم أجر المشي إلى المساجد وما فيه من الحسنات وتكفير السيئات وبقيت أوزارهم على ظهورهم.
والبعض الآخر من الناس - وهم كثير - يأتون إلى المساجد في فتور وكسل، ويمضون فيها قليلا من الوقت على مضض وملل؛ فكثير منهم إذا سمع الإقامة جاء مسرعا ثائر النفس ودخل في الصلاة وهو مشوش الفكر، لم يراع أدب الدخول إلى المسجد ولم يعمل بسنة الرسول حيث يقول: {إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا} وفاته أجر التقدم إلى المسجد وانتظار الصلاة، فقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الذي يجلس ينتظر الصلاة في المسجد كالمرابط في سبيل الله، وأنه يكتب له أجر المصلي ما دام ينتظر الصلاة، وأن الملائكة تستغفر له ما دام كذلك - لكن اليوم يؤذن المؤذن ويمضي وقت طويل والمسجد خال ليس فيه أحد إلى أن تقام الصلاة فيأتون متكاسلين.
إن التأخر في الحضور إلى الصلاة كما أنه يفوت أجوراً كثيرة فهو أيضاً يفتح باب التهاون بالصلاة ويجر في النهاية إلى ترك صلاة الجماعة، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي رأى في أصحابه تأخراً فقال لهم: { تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله}.
أعتقد أن هؤلاء لو كان يفوتهم بتأخيرهم طمع من مطامع الدنيا لجاءوا مع أول الناس ولجلسوا في الانتظار الساعات الطويلة دون ملل، وما ذاك إلا لأن الدنيا أحب إليهم من الآخرة. لقد أصبحت المساجد اليوم مهجورة مغلقة غالب الوقت لا تفتح إلا بضع دقائق وبقدر أداء الصلاة على عجل.
لقد أصبحت المساجد تشكو من قلة المرتادين لها والجالسين فيها لذكر الله، فقدت العاكفين والركع السجود الذين يعمرونها آناء الليل وأطراف النهار؛ فقد كانت المساجد فيما مضى بيوتاً للعبادة ومدارس العلم وملتقى المسلمين ومنطلقهم، فيها يتعارفون ويتآلفون ومنها يستمدون الزاد الأخروي ونور الإيمان وقوة اليقين، بها تعلقت قلوبهم وإليها تهوي أفئدتهم، هي أحب إليهم من بيوتهم وأموالهم، فلا يملون الجلوس فيها وإن طالت مدته، ولا يسأمون التردد عليها وإن بعدت مسافته، يحتسبون خطاهم إليها ويستثمرون وقتهم فيها فيتسابقون في التبكير إليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي