إجهاشة .. في رحيل الطيب صالح

في قصيدة رائعة للشاعر اللبناني شوقي بزيع رثى بها الزعيم كمال جنبلاط وغناها الفنان مرسيل خليفة قال:

كأنما أمة في شخصك اجتمعت
وأنت وحدك في صحرائها المطر

هذا بيت من الشعر عظيم, لا يليق إلا بعظيم, كالطيب صالح الذي لم يكن زعيماً سياسياً ولا قائداً عسكرياً ولا ثرياً من الأثرياء لكنه جمع الزعامة والقيادة والثراء في فنه الروائي, وجمع معها في شخصه فخامة التواضع, ما أدارت الشهرة رأسه وهو الذي أدار رؤوس قرائه في قارات العالم نشوة وذهولا .. ألم يتم اختيار (موسم الهجرة إلى الشمال) واحدة من بين أفضل 100 رواية عالمية؟!
كيف رحلت عنا أيها الطيب صالح؟ بالأمس كنت معنا هنا في "الاقتصادية" هاهو مقعدك في ركن البهو, كنت مسكوناً بمشروع روايتك, لم تقل لنا ما هي؟ تركتنا كالأيتام ليلة العيد في انتظار ثوب جديد, كنا نسمعك بصوتك الجهوري العميق, بسحنتك الإفريقية وكلماتك المملوءة شهوة ولذة للغة بضة ما أسلمت عذريتها إلا لك.
كنت قرأتك عذبا في (عرس الزين) و(دومة ود حامد) لكني حين قرأت (موسم الهجرة إلى الشمال) نبتت لي أجنحة خرافية, طرت, أفلت من جسدي، فررت من أمي وأبي وصاحبتي التي تؤويني, وكل من قرأها ـ وما أكثرهم ـ تركته مغشيا عليه. وأكبر ظني أنها انحدرت من الطيب صالح دفعة واحدة, كجلمود صخر حطه السيل من عل, لم يشعر بها إلا وقد ارتطمت به على الورق عند آخر كلمة ..
أيها الطيب .. أكاد أسمع فيها هزيم رعد صوتك على لسان قريتك، مصطفى سعيد يجلجل في أرجاء المحكمة: (هذا المصطفى سعيد لا وجود له. إنه وهم, أكذوبة وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة) أو (إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة, قعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم، إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم من أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي إنني جئتكم غازيا في عقر داركم، قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ .. أنا لست عطيلاً.. عطيل كان أكذوبة. إذاً، مصطفى سعيد ليس عطيلاً، إنه عربي سوداني إفريقي بدشداشته البيضاء، بجلبابه الختمي، بعمامته الجليدية تتحدى شواظ شمس الاستواء الصريحة الناصعة؛ أستاذ جامعي في الاقتصاد، بشقته اللندنية العابقة بروائح الصندل المحروق والند وتوابل الشرق، المكتظة بريش النعام وتماثيل العاج والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخل على شطآن النيل وشمس غاربة خلف الكثبان الرملية والكتب العربية المزخرفة والسجاجيد العجمية والأقنعة وخدر بوهيمي راعف إلى جانب الرطانة الإنجليزية والثقافة العصرية واللباس الأفرنجي .. خلطة الطوطم بالعلم، السحر بالحداثة، الصوفية بالتهتك، الهوية بالاغتراب، العرافة بالتبدد في العالم، إفريقيا بأوروبا، الافتتان بالحضارة بالكراهية لها أو الحقد عليها، التصالح مع المستعمر برغبة القصاص أو الثأر منه .. مصطفى سعيد (ضد) مصطفى سعيد.. ووحده عطيل شكسبير الأكذوبة لأنه مخاض مخيلة الغرب عن الشرق، جرثومة (ألف ليلة وليلة) وعالم الحريم والجواري في قصور السلاطين .. مصطفى سعيد صنيعة الطيب صالح، تجليات عالمه الشرقي، اعترافاته، ليس هو بالذات، إنما إفريقيا وآسيا، أما عطيل فشتيمة أوروبا ضد الشرق، إدانة مسبقة وشهادة زور!!
هكذا رأيت الطيب صالح، عفريتاً من الإنس ظل يجس بإحساسه المرهف نبض المحال، عاش كـ (درويش متجول)على حد تعبير الشاعر الفيتوري ـ تتقاذفه المنافي، تكر كحبات المسبحة فيه ليبقى هو شاهدها، لكننا ضربنا له، أو ضرب لنا معه موعداً سنويا لا يخلفه أبدا مع مهرجان (الجنادرية) نجده، نسمعه، نراه في خيمة الشعر أو في الأروقة يملأ بضحكته الرخيمة أجواء الرياض، خليلاً للجميع، سنديانة عملاقة تمسح فيها العصافير مناقيرها كما قال الشاعر نزار قباني في تبجيله لمارون عبود. أما وقد رحل الطيب صالح فكيف تراه يكون انعقاد للجنادرية بدونه؟ أجزم أن كثيرين لن يصدقوا أنه لم يعد معهم، لسوف يجهشون بالسؤال: لماذا تأخرت عن الحضور أستاذ طيب؟! بعضهم سوف يتلفت عن الشمال وعن اليمين ليفسح له الطريق، كي يحظى بالجلوس إلى جواره، فقد كانت له، رحمة الله عليه، طلة دافئة عفوية، كان وديعاًَ مسالماً إنما متمرداً حراً برماً بالاستبداد والطغاة والتطرف، وقد شقي بطغمة من أبناء بلده شاءت أن تفقأ عين الفجر وأن تكمم فم التسامح لتجعل السودان أرخبيل أشباح فزعق مسمعاً الدنيا: (من أين جاء هؤلاء؟!).
وتبقى الأحجية الكبرى تفلق عقل كل من قابله وقرأه: أيعقل أن هذا الدمث الودود هو ذاك الممزق النزق الرجيم في الروايات والقصص؟ أسئلة تأخرت .. لا .. بل فات أوان طرحها، فقد رحل الطيب صالح، أقفل فمه وعينيه وسجى جسده في تراب النيل العظيم، وعلينا نحن الرؤية والكلام، ليس بالنيابة عنه وإنما بالإياب إليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي