الصناعات البتروكيماوية.. الاستثمارية

عندما تتمركز مجموعة من الشركات والمؤسسات والهيئات في موقع جغرافي لإنتاج مجموعة من المنتجات الصناعية المترابطة، فإن هذا التجمع يكوّن شبكة من العلاقات الصناعية المتنوعة تعرف في أدبيات الاقتصاد التنافسي بـالتجمع الصناعي.
يختلف المجال الجغرافي للتجمع الصناعي بين التمركز في مدينة واحدة، أو مجموعة من المدن، أو مجموعة من الدول المتجاورة. كما يختلف أيضا من حيث درجة عمق وتعقيد شبكة العلاقات الصناعية بين مكوناته. فهناك علاقة أفقية، وهي التي تكون بين مكونات التجمع الصناعي في المرحلة الإنتاجية نفسها. وهناك علاقة عمودية، وهي التي تكون بين مكونات التجمع الصناعي في مراحل مختلفة من العملية الإنتاجية.
تحظى خريطة العالم الاقتصادية بعدد ليس بالقليل من التجمعات الصناعية. من الأمثلة على ذلك تجمع صناعة البرمجيات في مدينة بانجالور الهندية، وتجمع صناعة التقنية الحيوية في مدينة كيمبردج الإنجليزية، وتجمع صناعة أجهزة الحاسب الآلي في منطقة سيلكون فالي الأمريكية، وتجمع صناعة الطائرات في مدينة تولوز الفرنسية.
يعد تحقيق الميزة التنافسية في منتجات التجمع الصناعي أحد أهم الأسباب لإنشائه. ولتحقيق هذه الميزة، يمر اقتصاد الدولة المالكة للتجمع الصناعي بأربع مراحل أساسية. تعكس كل مرحلة المصادر التي يستمد منها التجمع الصناعي ميزته التنافسية.
تعرف المرحلة الأولى بمرحلة عوامل الإنتاج. تسود الدولة تجمعات صناعية ناجحة وقادرة على المنافسة العالمية بسبب توافر عوامل الإنتاج الأساسية، كالموارد الطبيعية والظروف المناخية الملائمة. هذه العوامل تحدد نوع الصناعات التي يمكن أن ينافس الاقتصاد بها على المستوى العالمي. المنافسة في هذه المرحلة تعتمد على المنافسة السعرية واستخدام مستويات متوسطة من التقنية المستقدمة في الغالب من دول أخرى.
يكون الاقتصاد في هذه المرحلة شديد الحساسية لتقلبات الاقتصاد العالمي وأسعار الصرف الأجنبي. مما يزيد من صعوبة الاحتفاظ بميزته التنافسية. ورغم قدرة الاقتصاد في هذه المرحلة على زيادة التدفقات النقدية إلا أنه يمثل أساسا ضعيفا للغاية لتحقيق التنمية المستدامة.
تعرف المرحلة الثانية بمرحلة الاستثمار. يتجه الاقتصاد نحو الاعتماد على الاستثمار في مجالات تشييد البنية التحتية والعمليات الإنتاجية وحقوق تصنيع المنتجات الأجنبية. كما يتم تطوير عوامل الإنتاج، وإنشاء المزيد من البنية الأساسية المتطورة، وتنمية الموارد البشرية، وفتح عدد من الأسواق العالمية. وتقوم المنافسة المحلية على أساس خفض التكاليف، ورفع جودة المنتجات، واستحداث منتجات جديدة.
تعد أنجح المنتجات في هذه المرحلة تلك التي تتمتع بارتفاع الطلب المحلي عليها. يتركز دور الحكومة في هذه المرحلة في التدخل المباشر من خلال التوزيع الأمثل للرساميل، وحماية الصناعة المحلية، ودعم الصادرات، ومساعدة الشركات في الحصول على التقنية اللازمة.
تعرف المرحلة الثالثة بمرحلة الابتكار حيث تنتقل مكونات التجمع الصناعي من مرحلة نقل وتطوير التقنية إلى مرحلة إنشاء وابتكار تقنية جديدة. تتميز هذه المرحلة بتطور الخدمات الدولية كانعكاس لتطور الميزة التنافسية للتجمع الصناعي.
ففي مرحلتي عوامل الإنتاج والاستثمار، يقتصر تقديم الخدمات على تلك التي تعتمد على تكلفة العمالة، مثل الشحن وبعض خدمات البناء والتشييد. بينما في هذه المرحلة، تقوم الشركات بتقديم خدمات أكثر تعقيداَ مثل التسويق واختبارات الجودة.
يكتسب التجمع الصناعي في هذه المرحلة أيضا المرونة التي تمكنه من الانفتاح على العالم الخارجي، وتكوين تجمعات صناعية في دول أخرى، ومواجهة تقلبات الاقتصاد العالمي. يقتصر دور الحكومة على التركيز على الأساليب غير المباشرة لتوجيه الاقتصاد، مثل تحفيز عملية إيجاد عناصر إنتاج متطورة، و تشجيع إقامة شركات أعمال جديدة.
تعرف المرحلة الرابعة بمرحلة الثروة. حيث يعتمد الاقتصاد على الثروة التي تم تحقيقها في المراحل السابقة وإعادة توزيع الدخل بدلاَ من توليده. تمثل المراحل الثلاث الأولى تطورا في الميزة التنافسية وتكون مصحوبة بارتفاع متزايد في مستوى الرفاهية الاقتصادية. بينما تمثل المرحلة الأخيرة نوعاَ من التدهور في الميزة التنافسية. وذلك لأن الاقتصاد يركز اهتمامه على الحفاظ على الوضع الحالي بدلاَ من تطويره. وبالتالي ينخفض تشجيع الاستثمار وتزداد قدرة شركات التجمع الصناعي الكبيرة على التأثير في سياسات الاقتصاد العامة لصالحها.
يعد شيوع عمليات الاندماج بين شركات التجمع الصناعي من أهم علامات دخول الاقتصاد في هذه المرحلة. فالشركات التي تحقق فائضا نقديا يزيد على حاجتها تسعى للنمو ولكن دون المغامرة في الدخول في أعمال جديدة. كما تسعى الشركات أيضا إلى تقليل حدة المنافسة و دعم الاستقرار في الأسواق العالمية.
يقود هذا النقاش إلى النظر إلى مراحل نمو وتطور مجمع الصناعات البتروكيماوية في الجبيل وينبع. كانت أهم مخرجات الطفرة النفطية الأولى في أوائل وأواخر السبعينيات إنشاء "سابك" لتكون مركزا لتجمع صناعة البتروكيماويات ولاستثمار الموارد الطبيعية الهيدروكربونية والمعدنية في المملكة. استثمر التجمع والمتمركز بشكل أساسي في مدينتي الجبيل وينبع، وبناءَ على إحصائيات الهيئة الملكية للجبيل وينبع، ما قيمته نحو 75 مليار ريال في عمليات تطوير المدينتين. أثمر ذلك عن قيام ما يربو على 200 صناعة بلغت جملة استثماراتها نحو 160 مليار ريال موفرة بذلك أكثر من نحو 85 ألف فرصة عمل.
يحتل اليوم التجمع مكانة مرموقة في خريطة العالم الاقتصادية في مجال صناعة البتروكيماويات والأسمدة والحديد الصلب من حيث المبيعات وتنوع المنتجات.
الطفرة النفطية الثانية والتي نشهد بداياتها الآن تختلف، كما هو معلوم، عن الطفرة الأولى من ناحية مسببات ارتفاع أسعار النفط، ودور القطاعين العام والخاص في تحفيز النمو الاقتصادي، وتنوع قنوات توزيع الثروة، والقدرة التنظيمية لإدارة العوائد المرتفعة للنفط.
يقود هذا التباين إلى التفكر في واقعية نجاح الاقتصاد السعودي في إنتاج مجمعات صناعية كانت أو استثمارية في المستقبل لم تكن مألوفة من قبل لتشكل دعائم جديدة للميزة التنافسية للاقتصاد الوطني على المدى البعيد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي