مسؤولية التربع على جهاز القضاء
من مفاخر بلادنا أنها تزخر بشخصيات فذة, اجتمع فيها من الصفات ما تفرق في غيرها, حيث الديانة, والتواضع, ولين الجانب, وحفظ الأمانة, وتحمل المسؤولية, وبعد النظر, والصبر على تحمل المشاق, ومن أهم هذه الشخصيات التي حازت هذه الصفات من أطرافها: الشيخان الصالحان: صالح الحصين, وصالح اللحيدان, مد الله في عمرهما على طاعته...
أما والدنا الشيخ الدكتور صالح الحصين - حفظه الله - فهو فريد زمانه, ونسيج وحده, في فقه أحكام الشرع, وفي سبر أغوار النظام, وهو أسطورة في الورع والزهد, يعيد الأذهان إلى العصور الأولى, حيث زهد السلف, وورعهم, وتعففهم, ونادراً ما توجد شخصية تأتيها الدنيا وهي راغمة – ولا سيما في عصرنا الحاضر - فينحسر عنها, ويهرب منها, كما يجسد ذلك الشيخ صالح - حفظه الله - بعفويته, وشخصيته الجذابة...! مع ما آتاه الله تعالى من عقلية فذة, تستحضر الماضي, وتستوعب الحاضر, وتستشرف المستقبل...
وحين يستمع له المستمع, أو يحضر له محاضرة, أو يقرأ له القارئ مقالاً يقف مندهشاً أمام هذه الشخصية المتوقدة حماساً وغيرة على دين الله تعالى, والمنفتحة أمام أساطين العالم بكل أطيافها, لينهل منها النافع المفيد, ويدع منها الشاذ والنشاز...
إنها شخصية جمعت بين جنبيها الأصالة والمعاصرة, فامتزج منهما عالم كبير, يبهرك باستنباطاته, وعمق رأيه, وبعد نظره, ناهيك عما يتميز به من حصيلة شرعية, وخلفية نظامية, وخبرة عملية, قلما تجتمع في رجل بحجم الشيخ صالح - حفظه الله - مع ما آتاه الله تعالى من تواضع, وخلق فاضل, وأدب جم, يعد فيه مدرسة تعليمية بذاتها, يتخرج منها طلاب كثر بشهادات علمية عالية تعادل الماجستير والدكتوراة, بل أكثر من ذلك بكثير...!
وللشيخ صالح الحصين مقالات قيمة حول الربا, والرأسمالية, والمصارف الإسلامية, سلطت الضوء على كثير من جوانب الخلل في النظام المالي الرأسمالي المتطرف, وما قد يتعرض له من أزمات كارثية؛ بفعل نظامه الذي يؤمن بنظرية السوق الحر, ويكفر بالبعد الأخلاقي للمعاملات المالية..., لقد تحدث عن هذا قبل أن تقع هذه الأزمة المالية, وكأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق؛ وذلك لأنه ينطلق من منطلقات شرعية أصيلة, مع ما آتاه الله تعالى من قدرة فائقة على متابعة المسار الاقتصاد الغربي, وما يكتبه أساطين الاقتصاد في العالم الغربي, حتى تفوَّق بذلك على كثير من أصحاب هذا التخصص؛ وذلك لأنه يقرأ ويتابع بنفس ذكية, وبعقلية محايدة ومتأملة, لا بنفس معجبة بما لدى الآخر, فتقرأ وتتابع لتجتر ما يقال من وراء البحار, وحسب...!
ومن أبرز ما تحدث عنه في مقالاته وكتاباته القيمة: الربا ونظام الفائدة, وأثرهما الخطير في اقتصاد الأمة, كما تحدث عن تحايل بعض المصارف والنوافذ الإسلامية على الربا, وخطره على مستقبل العمل المصرفي الإسلامي, وكان حديثه في هذا الموضوع في قمة الصراحة والشفافية, فلم يكن يجامل أحداً على حساب القضايا الشرعية, سواء في حديثه عن البنوك التقليدية, أو عن المصارف والنوافذ الإسلامية, وفي الوقت نفسه, فقد كان حديثه بنفس أبوية حانية, لا بنفس حاقدة, أو متحاملة, أو مريدة للتشفي والانتقام...!
أما والدنا الشيخ صالح اللحيدان - حفظه الله - فقد ملأ كرسي رئاسة المجلس الأعلى للقضاء لعشرات السنين, فكان له تاريخ مشرف, برسوخ رأيه, وقوة عزيمته, ووقوفه جبلاً شامخاً أمام كل من أراد التسلل إلى القضاء من الأبواب الخلفية, أو النيل من نزاهة القضاء وعدالته, وقد وفقت الحكومة- رعاها الله - حين وضعت هذا العالم والمسؤول النزيه في مثل هذا الموقع طيلة السنين الماضية, وهو بحق مفخرة لبلادنا, قلما يوجد له نظير لمن عرفه عن كثب, ناهيك عن صبره العجيب على قراءة ومتابعة كل القضايا الواردة إلى المجلس الأعلى للقضاء, والتي تحمل إليه يوميا عبر طرود كبيرة وكثيرة, تنوء بالعصبة أولي القوة..! والكمال كما يقال عزيز, وقد ترك الشيخ صالح إرثاً عظيماً, وحملاً كبيراً, ولذا نسأل الله تعالى أن يوفق الشيخ صالح بن حميد لتحمل هذه المسؤولية العظيمة, وهو أهلها, وابن بجدتها...
إن جهاز القضاء يشكل ركنا من أركان السلطات الثلاث: التشريعية, والقضائية, والتنفيذية, ولذا فإن التربع على هرم هذا الجهاز يستدعي مراعاة قضايا رئيسية ومهمة, من أبرزها:
1- المحافظة على نزاهة القضاء واستقلاله, لأن هذا هو الضمانة الوحيدة لتحقيق العدالة, وهو خط أحمر لا يجوز لأحد المساس به, ولا التعرض لحماه؛ لأن الراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
2- وضع القضاء الشرعي تحت الحراسة المشددة؛ لئلا يتسلل إليه من يطمح لمصادرته تحت أي عنوان أو شعار, فالقضاء الشرعي هو الأمان الوحيد لتطبيق العدالة, والمحافظة عليها, والعدالة هي رمز حضارة الأمة وعنوان تقدمها, أما الممارسات الخاطئة من بعض القضاة فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن تجيَّر ضد القضاء الشرعي؛ لأن القضاء الشرعي مصدره إلهي (من حكيم خبير), وأما الأحكام المجانفة للحق والصواب, فمصدرها إما جور القاضي ذاته؛ بسبب جهله أو تجاهله(قاض في الجنة, وقاضيان في النار), وإما مصدرها تلبيس بعض الخصوم, ولحنهم في الحجة (لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, فأحسب أنه صادق, فأقضي له..!).
3- المسارعة في تطبيق نظام القضاء الجديد قدر الإمكان, ولاسيما فيما يتعلق بالتخصصات الجديدة التي أضيفت للمحاكم, وذلك لأن تطبيقها لا يفتقر إلى كوادر كثيرة - كما يفتقر إليه فتح محاكم استئنافية - كما أنه يعيد بعض اللجان التي تمارس عملاً قضائياً إلى مظلتها الطبيعية, وهي المحاكم الشرعية.
4- الاستمرار في سياسة الرفع من مستوى القضاة, وتأهيلهم تأهيلاً علمياً, سواء عبر التنسيق مع المعهد العالي القضاء من الناحية الأكاديمية والتدريبية, أو بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة, والمتخصصة في الجانب التجاري, أو المصرفي, أو الجنائي..إلخ
5- المضي قدماً في سياسة تسريع إصدار الأحكام القضائية, وذلك عبر تعيين أكبر قدر ممكن من القضاة الأكفاء, وتطبيق ما يقضي به نظام المرافعات فيما يخص الأحكام الغيابية ونحوها, وتوظيف التقنية الحديثة في تعجيل إنهاء إجراءات إصدار الحكم القضائي(كما هو الحال الآن في كتابة عدل الأولى), وتعيين مساعدين للقضاة من كتاب ضبط وغيرهم, على أن يكونوا من الحاصلين على درجات علمية جيدة, بعد حفزهم بإغراءات مالية مناسبة, تجذب الكفاءات العلمية لمدة أطول, وتنأى عما هو أقل منهم كفاءة, وأضعف تخصصا.
6- التخفيف من هوة التفاوت بين الأحكام القضائية قدر الإمكان, وذلك بتوسيع قاعدة قضاة التمييز, بحيث يكون عددهم أكثر مما هو عليه الآن (عدد من القضاة مستحقون للترقية على رتبة قاضي تمييز منذ سنوات) وذلك لأن أغلب القضايا تمر عبر التمييز؛ فمثلا جميع الأحكام المتفاوتة الصادرة من محاكم منطقة عسير ومحاكم المنطقة الغربية وتبوك تمر عبر هيئة واحدة للتمييز, وهذا من شأنه أن يحد من تفاوت الأحكام لأنها جميعا تطبخ تحت نار واحدة..., وهكذا فيما يتعلق بهيئة تمييز الوسطى, وهذا لن يكون بالمستوى المطلوب إلا بعد تعيين أكبر قدر ممكن من قضاة التمييز, إضافة إلى نشر الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم(وهي تطبع تباعاً منذ مدة) لتكون بمثابة سوابق قضائية, يستضيء بها القاضي, ويستنير بمسبباتها وأحكامها, دون أن يلزم بأحكامها, وبهذا يجمع بين حسنتين, حسنة الاستفادة من هذه الأحكام للتخفيف من حدة التفاوت في الأحكام, وحسنة فسح المجال أمام القاضي للاجتهاد في القضية, أما فكرة تقنين الأحكام, فهي من وجهة نظري, فكرة قديمة, تغلب سلبياتها على إيجابياتها, كما يبرز ذلك من خلال الآتي:
أ- أن التقنين لا يحل مشكلة التفاوت في الأحكام, ولكنه يحد منها بدرجة ما؛ لأنه (في كثير من الأحيان) لا يعالج مشكلة اختلاف ملابسات كل قضية, وما يتعلق بها من سوابق.
ب- أن التقنين وإن أعطى أحكاماً قضائية واحدة, لكن يبقى الأهم وهو تحديد مناط كل قضية, وهذا يختلف تحديده من قاض لآخر, حتى مع وجود التقنين.
ت- أن التقنين يحاصر ذهن القاضي في زاوية ضيقة, وربما أحياناً يضطره لوضعه في الدرج؛ نزولاً عند قوة المادة المقننة.
ث- أن القاضي في كثير من الدول المتقدمة لا يلزم بمواد مقننة, وإنما يفسح المجال لاجتهاده في القضية, مستفيداً من السوابق القضائية, وغيرها.
ولهذا- وغيره مما لا يسمح المقام بذكره- فإن التقنين من الأمور التي يجب أن ينظر فيها إلى الجانب السلبي, كما ينظر إلى الجانب الإيجابي, ويوازن بينهما, ولاسيما أن أكثر التفاوت الموجود في الأحكام, هو فيما يتعلق بقضايا التعزير, وبعض القضايا المالية, ولهذا فإن الحاجة لو كانت, فإنها ينبغي أن تقدر بقدرها, والله تعالى أحكم وأعلم.