العودة إلى التأميم

عاد الحديث عن التأميم في الصناعة النفطية بقوة، ولا غرابة، ففي عصر التقلبات السعرية والغموض الذي يلف الأسواق ووجهتها المستقبلية يصبح استكشاف أي خيار والعودة إلى تجريب المجرب أمرا غير مستبعد.
ففي الشهر الماضي تحدث الزعيم الليبي معمر القذافي عن إمكانية العودة للتأميم ما لم يرتفع سعر البرميل إلى 100 دولار. وفي بعض دول أمريكا اللاتينية أمثال بوليفيا وفنزويلا بدأت الإجراءات ذات البعد التأميمي تجد طريقها إلى أرض الواقع.
هذه العودة إلى شعار ملأ الأفق في القرن الماضي وبلغ قمته في السبعينيات عندما سيطرت معظم الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، لها ما يبررها بسبب تدني العائدات وما تحصل عليه الدول المنتجة من بيع ثروتها النفطية الناضبة. وفي الفترة الأخيرة رسم مسؤول سوداني صورة قاتمة للوضع الاقتصادي في بلاده التي انضمت حديثا إلى نادي الدول المصدرة للنفط، وأصبحت بالتالي عائداته تمثل نسبة عالية من إجمالي دخل البلاد، حيث أوضح أنه ومنذ بداية العام لم يدخل خزينة الدولة دولار واحد من مبيعات النفط، وأن كل العائد كان يخصص لتكلفة الإنتاج واستحقاقات الشركات.
وحالة السودان مع تفردها إلا أنها لا تختلف عما أشار إليه القذافي أو الرفاق في أمريكا اللاتينية، والإحساس أن الشركات الأجنبية تحصل على النصيب الأكبر مما كان ينبغي أن يكون حقا كاملا للبلد المنتج، لكن هذا الشعور يتجاوز حقيقة أساسية وهي أنه لم يتم اللجوء إلى الشركات الأجنبية في البداية إلا عندما عجز أهل البلاد المعنية عن تشغيل صناعتهم بالكفاءة اللازمة.
وحديث العودة إلى التأميم لا ينطلق فقط بسبب تدني العائدات مع وجاهة هذا السبب، وإنما لأنه وجد في الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية بعدا سياسيا أعاد التركيز على دور الدولة في إدارة العملية الاقتصادية.
فمنذ مرحلة التاتشرية والريجانية صعدت قوى السوق لتصبح المحرك الرئيس للسياسات والممارسات للدرجة التي أصبحت معها القاعدة الذهبية أن السوق قادرة على إصلاح نفسها وتوفير السياسات المناسبة هي السائدة. وأسهم في هذا انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه نظرية وممارسة تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد.
ثم جاءت الأزمة المالية التي تطورت إلى كساد اقتصادي لتشير إلى خلل الاعتماد فقط على قوى السوق لضبط الواقع. وأصبح تدخل الدولة سواء في شكل ضخ أموال لإقالة المؤسسات المالية المتعثرة أو ضبط الممارسات الدعوة السائدة والوسيلة الوحيدة لإخراج الاقتصاد الغربي من الحالة التي يعيشها حاليا.
عقب انهيار الاتحاد السوفياتي كثر الحديث عن طريق ثالث كان أبرز فرسانه توني بلير في بريطانيا وجيرهارد شرويدر في ألمانيا وإلى حد ما بيل كلينتون في الولايات المتحدة، الذين سعوا إلى تجنب إرث الريجانية ـ التاتشرية، لكن في الوقت ذاته عدم القبول بنظرية أن انهيار الاتحاد السوفياتي يعني إطلاق العنان لقوى السوق لتتحرك وحدها دون كوابح. لكن التجربة كانت وكأنها حلم صيف تبخر بسرعة وارتبطت إلى حد كبير بفرسانها الثلاثة هؤلاء ودون تأطير نظري يضع الأساس لانطلاقة مستدامة.
وبالعودة إلى فكرة التأميم، فإنها كي تؤتي أكلها لا بد لها من الإجابة عن السؤال الأساسي، وهو: كيف يمكن تشغيل الصناعة بالكفاءة اللازمة عبر توفير التقنية والاستثمارات التي تجعلها قادرة على العطاء، وأهم من ذلك الاستمرار فيه. وكل ذلك عبر الاعتماد على الكفاءات الوطنية، إبعادا للأجنبي المستغل.
والمفارقة أن تكون آخر دولة سيطرت على صناعتها النفطية ودون اللجوء على التأميم هي الأكثر تأهيلا في هذا المجال، والإشارة إلى السعودية التي من واقع سيطرتها الفعلية على صناعتها النفطية أصبحت الشريك القادر على المساعدة إلى الولوج إلى عالم من الترتيبات الجديدة للسوق. فإضافة إلى سجلها السابق موردا مضمونا يمكن الاعتماد عليه لإمداد السوق بما تحتاج إليه والتعويض عن أي انقطاع، فهناك طاقتها الإنتاجية الفائضة التي تكاد تمثل نحو ثلث قدرتها الإنتاجية في الوقت الحالي، وتحتاج إلى نحو 15 مليون دولار يوميا للحفاظ عليها. وهذا عبء كبير لا يوجد من يتحمله من المنتجين دولا أو شركات أو المستهلكين.
تجربة سبعينيات القرن الماضي التي سيطرت فيها كل دول (أوبك) على مقدرات صناعتها النفطية لم تكن خيرا كلها، بدليل عودة الغالبية العظمى من دول (أوبك) وفتحها لأبوابها مرة أخرى للشركات الأجنبية ذاتها التي طردتها من قبل وذلك حتى يمكنها القيام بما يمكن القيام به وهو تشغيل المرافق الصناعية بفعالية والاحتفاظ بالدجاجة التي تبيض ذهبا.
على أن القضية في نهاية الأمر لا تتعلق بصحة أو فساد نظرية التأميم وإنما في كيفية المضي قدما لمواجهة الواقع الحالي للسوق المتدهورة، وكيفية الاستفادة من تجارب الأزمة الاقتصادية الحالية لفتح صفحة جديدة بالتعاون مع المنتجين تهدف إلى استقرار السوق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي