المراكز المالية الخليجية والتحدي القادم

لا شك أن القطاع المالي العالمي يمر بأكبر أزمة منذ الكساد الكبير تنذر بتغيير الفكر الاقتصادي ونماذج الأعمال عموماً. فبعد هيمنة قواعد السوق الحرة وإرخاء التنظيمات من خلال إيلاء مهمة تنظيم الأسواق المالية والبنوك إلى قوى السوق والرقابة الذاتية، بدأ التوجه في مراكز صنع القرار الاقتصادي والأدبيات المالية والاقتصادية في الدعوة إلى تشديد الرقابة والإشراف على المؤسسات المصرفية والقطاع المالي من قبل الجهات التنظيمية والرقابية. وتشير تطورات الأزمة المالية إلى حتمية حدوث تغييرات كبيرة في قواعد اللعبة ودور ونمو القطاع المالي عموما في المستقبل القريب بشكل يختلف عن الأساليب السائدة في الـ 20 عاما الماضية. فأساس الأزمة المالية العالمية هو قصور التنظيمات والتشريعات الرقابية عن مواكبة نمو وتطور الأدوات المالية والاستثمارية التي تطورت بسرعة كبيرة مدفوعة بثورة الاتصالات وتقنية المعلومات بجانب الاعتماد الكبير على الاقتراض والتمويل للاستثمار في أدوات مالية معقدة تزيد من درجة الانكشاف على المخاطر وارتباط المؤسسات المالية والاستثمارية مع بعضها بعضا.
وفي صخب نمو القطاع المالي والاستثماري في السنوات العشر الماضية دخل عدد من دول الخليج في منافسة إقليمية للفوز بلقب المركز المالي الخليجي من خلال إنشاء مراكز مالية وبورصات إقليمية بتحالفات دولية في بعض الأحيان لتقوم بعمليات مصرفية تخدم قطاع الأعمال في المنطقة وتشكل الرابط بين القطاع المالي العالمي والاقتصادات الخليجية. فبدأت دبي بإنشاء المركز المالي العالمي وتبعتها قطر بإنشاء المركز المالي ثم البحرين بإنشاء المرفأ المالي والمملكة بالإعلان عن إنشاء مركز الملك عبد الله المالي. هذه المراكز المالية تقوم على نماذج أعمال متشابهة تستهدف استقطاب المؤسسات المالية والمصرفية العالمية وجمع المؤسسات المصرفية الإقليمية للاستفادة من تركزها في تمويل النشاطات الاقتصادية وبناء قدرات مصرفية محلية تستفيد من توافر الخبرات الأجنبية علما بأن السوق المستهدفة لهذه المراكز المالية هي السوق السعودية نظراً لتفوق الحجم الاقتصادي والعمليات المصرفية والمالية التي يتم تنفيذها يوميا. ونظراً لاختلاف الظروف الاقتصادية عند البدء في إنشاء المراكز المالية الخليجية قبل عدة سنوات عن الظروف الاقتصادية في العام الحالي وآفاق النمو الاقتصادي المستقبلية بجانب الأزمة التي تمر بها نماذج أعمال البنوك الاستثمارية فإن المنافسة بين المراكز المالية الخليجية قد تؤدي إلى تراجع الجدوى الاقتصادية من بعضها وعدم تحقيق العائد المطلوب من الاستثمار. وبتناول المراكز المالية الخليجية كل على حدة نجد أن مركز دبي المالي العالمي تمكن من البدء في وقت مبكر واستقطاب عدد من المؤسسات المالية والمصرفية الدولية كالشراكة الاستراتيجية مع بورصة ناسداك التي تستهدف السوق الخليجية, إضافة إلى جذب عدد من البنوك والمؤسسات الاستثمارية من البحرين التي كانت تاريخياً المركز المالي لبنوك الأوفشور وفروع البنوك الأجنبية. أما مركز قطر المالي فقد دخل إلى حلبة المنافسة مع دبي كالحال في التحالف بين بورصة الدوحة وبورصة نيويورك يورونيكست المنافس التقليدي لبورصة ناسداك الشريكة مع بورصة دبي ولكن صعوبة اجتذاب المؤسسات المالية والمصرفية التي قامت بفتح فروع في دبي أدت إلى قيام قطر بتمييز مركزها المالي عن طريق التخصص في تمويل مشاريع النفط والغاز عطفا على ميزتها النسبية في إنتاج واحتياطيات الغاز الطبيعي. أما مرفأ البحرين المالي فهناك ضبابية في الميزة التنافسية التي سيعتمد عليها لمنافسة قطر ودبي, خصوصاً أنه بدأ متأخراً نسبياً وفي ظل ظروف اقتصادية عالمية صعبة. فالبحرين التي كانت تعد المركز المالي لدول الخليج لكثرة فروع البنوك العالمية وبنوك الأوفشور الاستثمارية قد تتأثر بفشل نموذج البنوك الاستثمارية وأزمة القطاع المالي العالمي وشح السيولة بشكل أكبر من المراكز المالية المنافسة في دبي وقطر, خصوصاً مع صعوبة اكتساب ميزة تنافسية واضحة تميز مرفأها المالي عن غيره عوضا عن المكانة التاريخية لبنوك الأوفشور.
أخيراً، يبدو أن المراكز المالية الخليجية ستمر باختبار صعب في الأعوام القليلة المقبلة سيتشكل بناء عليها هيكل السوق الذي من المتوقع أن يشمل مزيداً من التخصص وتنوعاً في الميزات التنافسية تحسباً لقدوم مركز الملك عبد الله المالي إلى حلبة المنافسة, خصوصاً أن من المتوقع له أن يتمتع بمزايا نسبية وتنافسية تجتذب جزءاً ليس بقليل من أعمال المراكز المالية الإقليمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي