الحرب على غزة..الآثار التربوية والنفسية
الأحداث التي يمر بها الفرد أو الجماعة تمثل مصدراً ومعيناً أساسياً في التشكيل أو إعادة التشكيل لكيان الفرد أو الجماعة في كافة المكونات العقلية، والنفسية، والوجدانية، والمهارية، والسلوكية سواء كانت هذه على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة الواحدة التي يجمعها مكان واحد، أو تشترك في ثقافة واحدة، أو يجمعها هدف واحد تسعى لتحقيقه. وما من شك أن الأحداث تختلف في حجم تأثيرها وقوتها حسب قوة الحدث، وفي أي مرحلة عمرية حدثت، إضافة إلى هل وقع الحدث على الفرد بمفرده، أم وقع على الجماعة؟ ولو أخذنا الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على غزة كمثال لوجدنا أنها أحدثت الكثير من التغيرات، وستحدث الكثير مستقبلاً سواء لدى الأفراد الذين عاشوا الحدث، وتفاعلوا معه في مراحله كافة، أو أولئك الذين سمعوا به، وشاهدوا مجرياته عبر وسائل الإعلام. جملة التغيرات يمكن أن نطلق عليها الآثار التربوية، والنفسية للحرب على غزة، وهذه الآثار تتوزع على مجموعة مجالات، وليست محصورة في مجال واحد، ولو أخذنا المجال العقدي لأدركنا عمق التأثير الذي أحدثته هذه الحرب على إيمان الأفراد الذين تسنى لوسائل الإعلام مقابلتهم، والالتقاء بهم حيث يرتسم عمق الإيمان على محيا الأفراد، وفي مفرداتهم خاصة أولئك الذين فقدوا أحباءهم من الأزواج، والأبناء، والبنات، وكافة الأقارب، حتى مع فداحة الفاجعة يلمس السامع، والمشاهد الروح الإيمانية العالية، والاستبشار بالنصر، وعدالة القضية، والثقة بالله في تحقيق وعده لعباده المؤمنين، ولعل ما تكرر سماعه احتساب من فقدوا من الأقارب، والأحباء شهداء عند الله، وأنهم فداء للوطن، والأمة، والدين، كيف لا وأن فلسطين بلاد الرباط إلى يوم القيامة، إن رباطة الجأش المخضب بالإيمان هي السمة البارزة على أبناء غزة رغم فداحة المصاب وألمه.
الآثار في المجال العقلي تجلت في عدة صور، فالأطفال الذين عاشوا الحدث، وفقدوا آباءهم، وهدمت بيوتهم يتساءلون بصورة توحي بأن تفكيرهم أكبر من أعمارهم حيث يطرحون التساؤلات عن الذنب الذي اقترفه أقاربهم، وأقرانهم الذين فقدوا حياتهم بفعل آلة الحرب الصهيونية، ويتساءلون وبصوت مرتفع عن المجرم الذي فعل هذه الأفاعيل، من هو؟ ولماذا يمارس عداءه بسادية لا نظير لها في التاريخ؟ وما هي مكوناته الثقافية التي تحركه، وتدفعه لهذه الجرائم التي لا مثيل لها عبر تاريخ الإنسانية الطويل؟ تساؤلات الأطفال الأبرياء طبيعية لأنهم لا يتوقعون أن جنساً ينتمي للمجموعة البشرية يمارس هذه الممارسات، كما أن هذه التساؤلات تحرج العقلاء، وتدفع لمزيد من البحث، والدراسة لآليات تفكير العدو، ولماذا يفكر بهذه الطريقة العدائية، وهل أفعاله وراءها دوافع عقدية، أم مصالح مادية ودنيوية، أم أن الأمر قد يكون صورة مرضية متجسدة في هذا الجنس؟ التأثير في المجال العقلي امتد ليطرح القادة الفلسطينيون، وكذلك القادة العرب تساؤلات بشأن أطروحات السلام المقدمة للعدو خلال السنوات الماضية، وفرض مراجعة موضوعية لسنوات البحث عن السلام العبثية منذ مدريد وحتى الوقت الراهن ولا أدل على ذلك إلا ما حدث في قمة الكويت حيث أكد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أن مبادرة السلام العربية لن تبقى على الطاولة طويلاً. الأثر في المجال النفسي والوجداني يتضح بصورة جلية من خلال مشاعر التفاؤل رغم الدمار الهائل والخسارة الفادحة التي لحقت بالناس في أهليهم، وأموالهم، اليأس، والقنوط لم يعد له وجود لدى الإنسان الفلسطيني بغض النظر عن موقعه، وعن عمره، وثقافته، وتتضح روح القوة، والعزيمة، والإصرار على الكفاح على وجوه الناس ومشاعرهم. الأثر في المجال النفسي تناول اتجاهات الإنسان الفلسطيني والعربي بشكل عام حيال من قام بالحرب حيث خلق الكيان الصهيوني مناخاً يولد اتجاهات سلبية نحوه. في المجال المهاري على المستوى الفردي، والاجتماعي خلقت الحرب فرصة لبناء المهارات الفردية لتنظيم الحياة اليومية، ومواجهة الحدث الجسيم، والتكيف معه، وتدبير شؤون الحياة بالشكل الذي يتناسب مع الظروف الصعبة، ومواجهة الطوارئ من حالات قتل، أو إصابات، أو تدمير. كما أن المهارات على المستوى الاجتماعي ظهرت في التضامن، وبروز روح الجماعة، والتكاتف، والتعاون بين الجيران، وبين أبناء المجتمع الفلسطيني في غزة، وهذا ما ظهر في عمليات الإسعاف، والإيواء، وتقديم الخدمات الاجتماعية، وتقديم الرعاية لمن يستحقها في ظرف الحرب القاسي. المهارات الإعلامية برزت بشكل واضح في التغطية الإعلامية الجيدة التي برعت في نقل الحقائق ووضعها أمام المشاهد في كل أنحاء العالم. كما أن الحرب أفرزت ثقافة جديدة في المجال السياسي، والاجتماعي، ثقافة يمكن تسميتها ثقافة رفض القهر، والظلم، والإذلال، ثقافة تدرك الأمور كما هي في الواقع، وليست أماني لا واقع لها، ولا جذور، ومع هذه الحرب، ظهرت مصطلحات جديدة تبعث الأمل، وتبرز مصادر القوة في الأمة، مصطلحات أصبحت تتردد على ألسنة الناس وعبر رسائل الجوال، وكافة الوسائط. هذه الثقافة أسقطت مفهوم الدولة التي لا تقهر، وذلك أنه، ومع جبروت العدو، ومع قوة ترسانته الحربية إلا أنه لم يتمكن من إذلال الفلسطينيين الذين ليس لديهم من مقومات القوة المادية إلا النزر البسيط، والبدائي إذا ما قورن بما لدى العدو الذي يملك طائرات إف16، وصواريخ، وقنابل، وكافة أنواع التدمير. لقد خلخلت هذه الثقافة الجديدة مفاهيم الاستسلام، وأسقطتها، واستبدلتها بمفاهيم العزة، والانتصار، وطرد العدو، وهزيمته. عززت هذه الثقافة أيضاً مفهوم المقاومة، والأخذ بأسباب القوة سواء كانت عسكرية، أو تعليمية، وتربوية، أو إعلامية، أو اقتصادية، وهذا ما أصبح حديث الجميع في وسائل الإعلام، أو في الندوات، أو في المجالس الخاصة.