رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


عصر التحولات

لخص أحد المراقبين الوضع في المنتدى الاقتصادي العالمي بقوله إن اللقاءات التي جرت في دافوس هذا العام تمت تحت العلم الروسي. فعلى غير العادة كان هناك غياب كامل للإدارة الأمريكية، وهي حتى إشعار آخر أكبر قوة اقتصادية، كما نأى كثير من المصرفيين الغربيين بأنفسهم عن المنتدى السنوي وألغوا الاستقبالات التي كانوا يقيمونها كيلا يكونوا هدفا سهلا لمنتقدي الأزمة الاقتصادية التي تلف العالم. ووجد كل من رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين ورصيفه الصيني وين جياباو الفرصة ليحاضرا مستمعيهم عن نهاية عصر "وول ستريت"، وأنهما كقوى جديدة بازغة سيظلون قوة مؤثرة في الساحة.
هذا وقت التحولات التي لا يدري أحد أبعادها والمدى الذي ستصل إليه وكيفية تجاوز مراحل الانتقال هذه، فرغم الخفض غير المسبوق للإمدادات من قبل منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) ونسبة الالتزام العالية في التقيد بالحصص الجديدة من قبل الدول الأعضاء في المنظمة، إلا أن سعر البرميل لا يزال منخفضا بأي مقياس.
والإشكالية الرئيسية تتمثل في الوضع الاقتصادي العالمي، الذي يعيش كسادا لم يشهده منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما وضع (أوبك) على المحك، فهل تستمر باتجاه خفض الإنتاج كي ترفع سعر البرميل بكل ما يمكن أن يعنيه من إضعاف لفرص النمو الاقتصادي، أم تتحمل الأسعار المنخفضة بأمل أن تكون عاملا دافعا في اتجاه تنشيط الوضع الاقتصادي الذي سينعكس بدوره على سعر البرميل مستقبلا؟
وتنداح التساؤلات لتطال حتى المؤسسات الموروثة منذ الحرب العالمية الثانية وآلياتها التي يتم العمل من خلالها، فالوضع الاقتصادي وحالة الطقس مثلا يعتبران أكبر عاملين مؤثرين في وضع الطلب على النفط. وإذا كان التعامل مع الطقس وتوقع مساره من السهولة بمكان استنادا إلى التقنية المتوافرة، إلا أن الأمر يبدو مختلفا مع التقديرات الاقتصادية، وهي مشكلة ذات أبعاد متعددة، فهناك مشكلة الحصول على المعلومات المتعلقة بالعرض والطلب للدرجة أنه حتى في بلد واحد مثل الولايات المتحدة مغرم بالأرقام والإحصائيات ويبدو الأفضل في هذا المجال بسبب توافر البنية التحتية والإمكانيات المطلوبة، إلا أن الأرقام الصادرة في يوم واحدة تتضارب مع بعضها بعضا في أحيان عديدة.
لكن هذه الأزمة تفاقمت في الآونة الأخيرة بسبب عاملين: أولهما أن الدول الغربية لم تعد منطقة النمو الرئيس في الطلب على النفط، وإنما الساحة الآسيوية خاصة الصين والهند. ارتفاع الأسعار الذي شهدته السوق وبصورة واضحة في أعوام 2003-2006 جاء في شكل مفاجأة لأنه اعتمد على الطلب الصيني والهندي ولم تكن هناك أرقام واضحة حول حجم هذا الطلب والتوقعات بشأنه قبل وقت كاف.
أما العامل الآخر الذي يمثل معضلة تحتاج إلى حل عاجل فتتعلق بالتعريفات، فإحدى أهم الأدوات في تحليل النشاط الاقتصادي مؤشر الناتج المحلي الإجمالي، لكن بدأت تتزايد القناعة أن هذا المؤشر لا يمكن اعتباره وحده قادرا على توفير صورة متكاملة عن النشاط الاقتصادي يمكن رسم سياسات على أساسها. ففي خلال العقد الماضي كان الانطباع السائد عن الولايات المتحدة أنها في حالة نمو اقتصادي متصل تدل عليه أرقام الناتج المحلي الإجمالي، لكن اتضح الآن أن تلك كانت مجرد فقاعة كبيرة، وأن الغالبية من المواطنين الأمريكيين في حال أسوأ مما كانوا عليه في بداية العقد عام 2000.
ويحمد للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أنه نقل الجدل حول هذه القضية من الدوائر الأكاديمية الضيقة إلى المجال السياسي الأوسع عندما أشار إلى التعارض الذي تحمله البيانات الاقتصادية الرسمية مع الواقع الحياتي للناس، فكثيرون لا يرون علاقة بين الأحاديث المتكررة عن النمو الاقتصادي وتحسن وضعهم المعيشي. طبعا الأمر يتعلق بنقطة مختلفة كلية، فتحقيق نمو اقتصادي شيء والتوزيع العادل لتلك الثورة بين المواطنين أمر آخر، له إحصائيات مختلفة.
وهذا مجال يمكن لـ (أوبك) الإسهام فيه بالتعاون مع منتدى الطاقة، ولو من باب دعم جهود الأخير لتوفير بيانات أكثر اكتمالا وتنوعا من مختلف المصادر من المنتجين والمستهلكين ومراكز الأبحاث المختلفة، فالمشكلة في جانب منها تعتبر مؤشرا على حالة التحولات التي يمر بها العالم. ففي السابق كان التركيز على مجموعة ما تعرف بالعالم الأول التي يشكل نشاطها الاقتصادي المحور الذي يتحرك حوله العالم، لكن الواقع تجاوز ذلك، وما جرى في دافوس أخيرا إشارة على ذلك.
وتنسحب هذه المتغيرات على الساحة النفطية، إذ لم تعد الطاقة الأحفورية هي الوحيدة في الميدان، فقضايا الطاقة الخضراء والبيئة أصبحت جزءا لا يتجزأ من أي مبحث في حاضر ومستقبل النشاط الاقتصادي ونوع الطاقة التي تقوم بتسييره، حتى وإن لم تسجل نسبة مقدرة في حجم الاستخدام، لكنها أصبحت قضية مطروحة بقوة بسبب التغيرات المناخية التي يشهدها العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي