هموم اقتصادية خليجية مشتركة.. تفاؤل رغم الصعوبات!
بعيداً عن هموم السياسة وتقلباتها ورغبةً في تحقيق التوازن بين التطلعات المرجوة والأكثر أهمية وتنموية وبين الحقائق الاقتصادية الواقعية، تتحرك دول مجلس التعاون الخليجية الست قُدماً إلى الأمام يحدوها الأمل في وضع كياناتها في المكان المناسب واللائق بها، في عالم كبير مُضطرب يموج بالتقلبات السياسية والاقتصادية وتعصف به رياح الأزمات العاتية من كل حدب وصوب، تهز أركان الاقتصادات العالمية قاطبةً بما فيها اقتصاداتنا الناشئة، محاولةً التأثير فيها وتثبيط همم رجالها المخلصين.
ما من شك في أن دول مجلس التعاون الخليجية تحتل مكانة اقتصادية متميزة في عالم اليوم، حيث إنها تمتلك أكثر من 50 في المائة من الاحتياطي النفطي العالمي المعروف، وتنتج أكثر من 18 في المائة من إنتاج النفط الخام العالمي عام 2007 م، حيث شكلت هذه النسبة نحو 40 في المائة من إجمالي صادرات دول مجلس التعاون لذات العام.
دول مجلس التعاون الخليجية جزء من المنظومة الدولية تؤثر وتتأثر بما يجري على الساحة الدولية من أحداث، فهي تتأثر من طريقين، الأول منهما إيرادات صادراتها من النفط الخام وآخرهما الأسواق المالية، فالركود الاقتصادي الضارب أطنابه اليوم يُعتبر مصدر قلق وتوتر شديدين لهذه الاقتصادات، حيث إن تدني أسعار النفط الخام وهبوطها القسري من علياء قمتها إلى ما يقارب الـ 40 دولاراً للبرميل، مع خفض التوقعات للنمو الاقتصادي العالمي إلى ما بين 1 و0.5 في المائة، بينما هي للدول الخليجية في حدود الـ 5 في المائة لهذا العام حسب تقديرات صندوق النقد الدولي للأشهر الثلاث الماضية، يضاف إلى ذلك رفع توقعات الخسائر المالية العالمية جراء هذه الأزمة العالمية من 1.5 إلى 2.2 تريليون دولار، هذه الحقائق ستؤثر بشكل مباشر في إيرادات الحكومات الخليجية وأرباح الشركات. فبجانب الضبابية السائدة في الرؤى الاقتصادية الاستراتيجية بعامة، السياسات في الأسواق المالية العالمية، وفي السياسات المالية والنقدية ومدى فاعليتها في التحفيز الاقتصادي لكثير من الدول المُؤثرة عالمياً، أسهمت بشكل مباشر وغير مباشر في التأثير السلبي في الأسواق المالية الخليجية، ما دفع الحكومات إلى التصرف وبشكل غير متوقع ومدروس لتوفر المناخات المناسبة من خلال تهدئة المخاوف وزيادة المعروض النقدي في الأسواق المحلية، مثل هذه السياسات لا بد أن تواكبها خطوات حذرة وسياسات مسؤولة وواضحة المعالم، وذلك من خلال الرقابة الشديدة على توجه السيولة والقنوات التي ستصب فيها والعمل على استثمارها بطريقة فعالة وسليمة عن طريق تفعيل فتح الجهات الحكومية والصناديق السيادية لحسابات لها وإيداعها بطريقة مبرمجة لدى المؤسسات المالية المصرفية لمساعدتها على تجاوز هذه الأزمة.
هذا جزء من حزمة كبيرة من الإجراءات الاقتصادية الفعالة التي قد تقوم بها الدولة لمعالجة مثل هذه الاختلالات الحاصلة في الأسواق، وحتى لا نكون مغرقين في التشاؤم سنتطرق إلى اثنين فقط من الهموم الكثيرة لنتمكن بسرعة من اتخاذ التدابير الكفيلة بتوظيفها لتحقيق مصالحنا.
الأوضاع الحالية للسوق النفطية لا تبعث على الارتياح والتفاؤل لسببين، أولهما الانحدار الشديد لأسعار الخام، التي قد تجرف معها الدول المُنتجة إلى مهاوي شح الإيرادات والسيولة الشديد، ما قد يدفع من ينتجه إلى التحول من خانة المانح إلى مجرد رقم في سلة الدول الكثيرة التي تستجدي الغير لتحافظ على حد أدنى من الإنفاق الحكومي والذي قد يصل حد الكفاف، وثانيهما هو ضعف التنسيق بين الدول المُنتجة لهذه السلعة الاستراتيجية خاصةً فيما بين الدول الخليجية بما لها من وزن كبير ومؤثر في السوق النفطية، وحتى تحافظ على مصالحها المشتركة، وذلك بالإبقاء على الأسعار عند مستويات عادلة تخدم اقتصاداتها المُعتمدة على هذه السلعة الهامة.
المتأمل لدور منظمة أوبك يلحظ انسجاما ظاهريا بين دولها، إلا أن هناك دول خارج المنظمة تعمل وفق أجندتها الخاصة، سواء تطابقت مع رؤى (أوبك) أم لا. على صعيد التنسيق الخارجي، من الأهمية بمكان وجود لجنة عالية المستوى تشاورية دائمة تضم خبراء من دول المجلس على قدر كافٍ من الخبرة والعمل المهني والأكاديمي تجتمع على الأقل مرة في الشهر بحيث تُراقب سياسات منظمة أوبك بعامة والسوق النفطية بخاصة وتُراجعها وتُقيمها واضعة نصب أعينها تحقيق أعلى مكاسب للدول الخليجية المنتجة للنفط وبما يخدم مصالحها ويناسب ويتفق مع معطيات الساحة الدولية.
هذه اللجنة ترفع مرئياتها وما تراه مناسباً من آراء ورؤى وأفكار لوزراء النفط والطاقة كي تُسهم في مساعدتهم على اتخاذ ما يرونه مناسباً من قرارات تصب في المصالح العُليا لدولهم، من خلال اجتماعات دورية شهرية تجمعهم. فلا غرابة دول الخليج العربية تُشكل الثقل الأكبر والرقم الأهم في منظمة أوبك وفي السوق النفطية، فليس من المعقول دول بحجم الدول الخليجية اقتصاديا ومالياً وبما لها من دور في الإنتاج العالمي وبما لديها من احتياطيات ولا تُدير الشأن الاقتصادي النفطي العالمي!! فمصير شعوب هذه الدول بل المنطقة كلها معتمد بعد الله على الإيرادات المتحققة من هذه السلعة الاستراتيجية، لذا لا بد من الحفاظ على أسعار عادلة لمصدر دخولها، حتى وإن اضطرت إلى عدم القبول والتعايش مع قوى السوق وظروف العرض والطلب حتى تتحدد الأسعار العادلة والمناسبة لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. تتعالى الأصوات دائماً عند ارتفاع أسعار النفط وتدعو إلى التدخل لوقف ميكانيكية السوق، بينما تخرس عند تهاوي أسعاره وتتشدق بأهمية قوى السوق في تحديد الأسعار.
وبالمنطق نفسه نقول إن الدول الخليجية هي اقتصادات متنافسة وليست متكاملة تنعم بثروة نفطية ناضبة وتفتقر إلى أغلب الموارد المائية والزراعية الحيوية للتنمية المستدامة، وعليه فإن خيار التصنيع هو خيار استراتيجي لا نكوص عنه، خاصة في مجال المشتقات النفطية والبتروكيماوية كوننا ننعم بميزة نسبية في إنتاجها إضافةً إلى بعض الصناعات التحويلية.
من المؤكد أن قيام كل دولة بإنتاج المنتجات نفسها سيترتب عليه هدر مالي كبير لميزانيات دول المجلس، كونها داعما رئيسا لهذه الصناعات، وثانيهما صعوبة تسويق وتصريف المنتجات المختلفة فيما بين دول المجلس لأن كل دولة تستهلك ما تنتجه محلياً.
هيئة عليا لتنسيق السياسات التصنيعية بين دول المجلس أضحت ضرورة لا مفر منها، بحيث تتمتع هذه الهيئة بصلاحيات تشمل القدرة على رسم السياسات التصنيعية وتوزيعها بين دول المجلس، وبما يتناسب مع موارد كل دولة الطبيعية وحاجاتها الاقتصادية، مثل هذه السياسات المرسومة بعناية ودقة سيكون لها عوائد مجزية وتتناسب مع طموحات دول المجلس لتحقيق التكامل الاقتصادي، حيث يتخصص كل بلد في صناعات معينة كخطوة سابقة للوحدة النقدية. هذا التوجه سيحقق مزايا وفورات الحجم الكبير ما يساعد على اتساع أسواق دول المجلس وانخفاض التكلفة، وهذا يصب في مصلحة المواطن الخليجي.