الفرقاطة الفرنسية.. هل أخطأت البوصلة؟
قبل سنة ونصف أو أكثر, كتبت السفارة الفرنسية تعقيباً على إحدى مقالاتي المنشورة في جريدة الاقتصادية, وللأسف لم أنتبه لذلك التعقيب إلا بعد زمن, حين أخبرني أحد الزملاء بذلك.
على كل حال, كنت في ذلك المقال قد تحدثت عما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في العراق من ممارسات وحشية تجاه المدنيين باسم التبشير بالديمقراطية في العراق, ونشر قيم الحرية والعدالة.. إلخ, وقد تحدثت عن زيف هذه الشعارات التي ترفعها أمريكا, مستحضراً الماضي, عبر قراءة تاريخية مماثلة في سوريا حين كانت ترزح تحت الاحتلال الفرنسي, وكان المحتل حينها يرفع الشعارات ذاتها, ويسوق لشعار الحرية والعدالة والمساواة على ظهر المدافع الفرنسية, وتحت أزيز القنابل التي كانت تنهال على دمشق, فتنسف البنيان, وتقتل الإنسان.! وزاد من ثائرة التعقيب المشار إليه أن المقال كتب بعنوان مثير يشبه لغة المحتل آنذاك, تحت اسم: "الذبح على الطريقة الفرنسية", فعقب (آلان جيبرات) المستشار الثاني في السفارة بجريدة الاقتصادية (9 أكتوبر 2007) منتقداً ما ذكرته في المقال, مؤكداً أن"السياسة الخارجية الفرنسية في المنطقة.. مرتكزة على الشرعية الدولية وعلى الرغبة الدائمة في إيجاد حل عادل للخلافات، أكان فيما يتعلق بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني, أم بالعراق..."أهـ. واليوم أرى الفرصة مناسبة مرة أخرى للحديث عن هذه السياسة التي تمس شعوباً مستضعفة بسوط عذاب, وتحديداً عما ذكروه عن رغبة دولتهم الدائمة للحل العادل للخلافات, فيما يتعلق بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني..إلخ, حيث يعجب كل من يعرف أبجديات العدالة, ويستوعب أقل مفرداتها كيف يكون الحل العادل لشعب غزة الجريح المحاصر- في نظر فرنسا- عبر إرسال الفرقاطة الفرنسية لإحكام الحصار على قطاع غزة!! بحجة المساهمة في مكافحة تهريب الأسلحة!!! وفرنسا تعلم جيداً أن غزة تدافع بهذا السلاح عن شعبها وأرضها..! ولماذا لا تتخذ فرنسا إجراء مماثلا, فتقف ضد الجلاد-كما وقفت ضد الضحية- وتدعو علناً حليفتها أمريكا إلى حظر تصدير سلاحها إلى إسرائيل, وهي الدولة الغاصبة للأراضي الفلسطينية, والتي تستهدف بطائرات إف 16 الأمريكية المدنيين, فتقتل بها الأطفال, وتستهدف بها النساء والشيوخ, وتقذف بها البيوت, ودور العبادة؟
إذا لم تقف فرنسا مع الشعب الغزاوي في قضيته العادلة, فلتقف موقف المحايد على الأقل, ولتكف عن إرسال القطع البحرية على بحر غزة، بغرض تشديد الخناق, وإحكام الحصار.! أما إن أرادت فرنسا أن تعزز من بعض شعارات العدالة والمساواة وحقوق الإنسان, وأن تثبت حسن نواياها, فلتعدل من بوصلة اتجاه الفرقاطة, ولترسل واحدة كمستشفى عائم على شاطئ غزة، لتطبيب المرضى والجرحى, وثانية كمعونات إغاثية لإطعام الأطفال, والنساء, والشيوخ, وغيرهم, ممن ألجأهم الحصار إلى قبول مثل هذه المساعدات الإغاثية ضرورة.
إن التاريخ لن يرحم أي دولة - عربية كانت أو غربية - وقفت مع المحتل الإسرائيلي, وبررت جرائمه, أو شاركت في الحصار الظالم, تحت أي ذريعة, سيعد التاريخ هؤلاء جميعاً شركاء في الجريمة, شركاء في القتل، لأن من يمنع السلاح عن الشعب المستهدف بالسلاح الإسرائيلي فهو كمن يمنع شعباً بأكمله عن الطعام والشراب, وهو يتضور جوعاً.
إن السياسة العادلة لا يجوز أبداً أن تساوي الجلاد بالضحية, فضلاً عن أن تقف مع الجلاد ضد الضحية. والمشاركة في قتل الضحية, عبر تجريده من السلاح, لا تجوز أن تبرر تحت أي ذريعة كانت, ولو بحجة التنسيق مع السلطة الفلسطينية, التي يعرف كل متابع للقضية الفلسطينية أنها تقف في خندق المحتل ضد شعبها في غزة, ولسان أهل غزة الغاضب من ممارسات السلطة الفلسطينية, ومن ورائها جماهير الشعوب العربية أكبر دليل على هذا..., ولاسيما والدول الأوروبية تعلن أنها تحترم الخيار الشعبي, الديمقراطي, وحكومة غزة منتخبة من شعبها في اقتراع نزيه, وتحت إشراف مراقبين دوليين.
إننا لا نطالب حكومة فرنسا بأن تحذو حذو حكومة فنزويلا, فتطرد السفير الإسرائيلي، لأن هذا شأن فرنسي داخلي, لكننا نطالبها بأن تكف عن شعب غزة الأعزل, فلا تحاصره بسفنها البحرية, تحت أي ذريعة كانت.., فالذرائع السياسية مرفوضة حين يكون الضحية شعباً بأكمله, وماذا ستجني فرنسا من هذا الحصار الظالم إلا تكريس العداء ضدها من الشعوب المسلمة, بل من الشعوب الحرة كلها؟!!
إنني كمتخصص في مجال الفقه والقضاء لا أعرف حجة قانونية لتكريس الحصار على شعب أعزل, حورب في بلده, ومورس ضده أبشع أساليب الاغتيال والحروب, ونوزع في لقمة عيشه, وفي جرعة دوائه, وحرم من خياره الديمقراطي الذي تعزف على أوتاره الدول المتحضرة.!