الأسعار.. من يصنعها؟

هممت بالذهاب إلى السوق لشراء كميات من حديد التسليح, إثر هدوء الأسعار, ورجوعها إلى وضعها الطبيعي, وقبيل شراء الكمية المطلوبة بأيام نما إلى علمي أن شركة سابك قد رفعت أسعار الحديد إلى 155 ريالاً, وفجأة بدأ الحديد ينفد من بعض الشركات ووكلاء التوزيع, وكأن الأرض ابتلعت كميات الحديد التي كانت تغص بها المخازن والمستودعات, وذلك خلال أيام معدودة من رفع "سابك" للأسعار..! حتى إن كثيراً من موزعي الحديد قبل الزيادة الأخيرة كانوا يبحثون عن التجار في مقار عملهم, ويعرضون عليهم الشراء ببعض العروض المغرية..!! وهنا نضع الكرة في ملعب وزارة التجارة للتحقق من هذا الأمر المثير للريبة.
إننا في حاجة إلى تثقيف الناس بالمبررات التي تمهد لارتفاع الأسعار, أو لانخفاضها, سواء المبررات الحقيقية, أو العبثية, وذلك لئلا يكونوا فريسة سهلة لتلاعب التجار بالأسعار, فالتثقيف وسيلة مهمة لتحصين السوق من اضطراب الأسعار وارتفاعها وانخفاضها بشكل غير مبرر, وبتأمل واقع السوق, نجد أن الأسعار تتأثر بعوامل عدة, منها:
1- ضرورة المنتج وأهميته؛ فالشركة ذات المنتج المهم والرئيس، لها ثقلها في السوق, وأسعارها - في الأصل - تتسم بالقوة والثبات, ولا سيما إذا كان المنتج ذا جودة عالية, وذلك على فرض ثبات العوامل الأخرى.
2- حجم المنافسة, فالمنتجات التي لها منافس في السوق تقل أسعارها, لانخفاض حجم الطلب, والعكس فيما إذا كانت الشركة تنفرد بالمنتج, فتتحكم في الأسعار لخلو السوق من الشريك المنافس, ولهذا يتعين على الدولة تهيئة الأجواء لوجود منافسين في السوق.
3- الاحتكار؛ وذلك أن التاجر إذا مارس أسلوب الاحتكار, فإنه ينأى بسلعته عن المنافسة, لينفرد وحده بالسلعة, من أجل أن يغلو ثمنها, ويحمل الناس مستقبلا على الشراء منه بأغلى الأثمان. ولهذا كان من واجب ولي الأمر أن يمارس سلطته بمنع هذه الممارسات الخاطئة, لتعود الأثمان إلى طبيعتها, ولا سيما في السلع التي تمس الحاجة إليها.
4- القوة الشرائية للعملة؛ فالأوراق النقدية إذا كان لها قوة شرائية فإنها تحافظ على استقرار أسعار السلع, أما إذا مسها داء التضخم, حيث ضعفت قوتها الشرائية, فهذا في كثير من الأحيان ينعكس سلباً على أسعار السلع, فتغلو الأثمان لتغطي العجز الذي لحق بالعملة.
5- السيولة النقدية؛ وهذا يحدث لأسباب عدة, منها: طروء مكاسب اقتصادية للبلد, كارتفاع العوائد النفطية, ما ينتج معه زيادة في السيولة, ولا سيما إذا قامت الدولة – مثلا - بزيادة رواتب الموظفين, فيحتال كثير من التجار والباعة على العامة بزيادة أسعار السلع, بقصد الرفع من مستوى دخلهم, استغلالاً لارتفاع رواتب الموظفين, ولهذا جرت العادة أن تقوم الدولة بتحذير التجار من زيادة أسعار السلع؛ قطعاً للطريق عليهم, ولئلا ينتج عن ذلك تضخم نقدي يضر بمصالح المواطنين.
6- الاستقرار السياسي والأمني؛ ولا شك أن الاستقرار يلعب دوراً رئيساً في استقرار أسعار السلع, ولهذا نجد أن كثيراً من الدول التي تعرضت لانتكاسات أمنية, أو لحروب طاحنة, تنوء بحمل هذه الأزمات من خلال صور كثيرة, منها ما يلحق السلع المعروضة للبيع من تضخم في الأسعار, بسبب عامل الحاجة أو الفقر... إلخ, الذي تولده الحروب والأزمات.
7- الحصار الاقتصادي؛ وهذا العامل متولد من السابق, فالحصار الذي تفرضه بعض الدول العظمى على الدول المستضعفة, غالباً ما ينتج عن ظروف سياسية غير مستقرة, فتكون الفرصة سانحة لبعض الدول الظالمة لتمارس جبروتها تحت أي ذريعة كانت, وهذا بطبيعة الحال يورث اضطراباً في الحياة الاقتصادية يمس الأسعار وغيرها.
8- العرض والطلب؛ فهما يحملان الأسعار على الارتفاع أو الانخفاض, فكلما زاد العرض وقل الطلب انخفض الثمن, وكلما قل العرض وزاد الطلب ارتفع الثمن, وهذا من القوانين الطبيعية في السوق, ليس في سوق بيع السلع فحسب, بل حتى في سوق الإيجارات والخدمات ونحوها, وهناك عوامل أخرى مؤثرة في الأسعار يطول استقصاؤها, منها على سبيل الإجمال: دخل المستهلك, أسعار السلع البديلة والمكملة, تكلفة الإنتاج, وقرارات السلم والحرب الدولية... إلخ.
وبهذا يظهر أن هناك مبررات حقيقية لارتفاع الأسعار, ومبررات عبثية - كالاحتكار-، فالشارع الحكيم قد أقر المبررات الحقيقية, ولهذا حرم الشارع من التدخل في السوق في الظروف الطبيعية.., أما حين تكون المبررات عبثية, أو مختلقة, يراد منها التأثير على الأسعار, فهنا حرم الشارع هذه الممارسات, وذلك عبر أشكال مختلفة, منها:
1- النجش في البيع والشراء: وهو أن يوهم الناجش - أو الناجشون إذا كانوا جماعة - أن لهم رغبة في السلعة, بأي أسلوب كان, ما يرغب فيها السوام الحاضرون للشراء, فيزيد ثمنها؛ إما ليجر الناجش لنفسه نفعاً أو للبائع, وإما ليلحق الضرر بالمشتري, وحيث إن هذا الأسلوب يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين, وهو مما لا يمت لخلق المسلم بصلة؛ لذا فقد جاء النهي عنه, كما في الصحيحين: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن النجش).
2- الاحتكار للسلع بقصد رفع الأسعار: حيث يحبس المحتكر السلعة عن المستهلكين حتى يقل المعروض في السوق, ويكثر الطلب عليها, والبحث عنها, ثم يعرضها في السوق بعد ارتفاع قيمتها, وهو منهي عنه؛ لما جاء في صحيح مسلم عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (من احتكر فهو خاطئ)، أي: مذنب. وعنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم, فإن حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعُظم من النار يوم القيامة) أخرجه أحمد, وعنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من احتكر حُكْرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ) أخرجه أحمد.
3- تلقي الجلب, والركبان, وبيع الحاضر للبادي: وذلك أن يتلقى مواطن البلد من يقدم إليه من الباعة الغرباء, ممن يحملون معهم البضائع والسلع التي تمس الحاجة إليها, وذلك لبيعها في السوق, فمنع المواطن من تلقيهم؛ لئلا ينتفع المتلقي على حساب عامة أهل السوق, ولهذا نهى عنه الشارع, كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لا تلقوا الركبان, ولا يبيع حاضر لباد)، وفي لفظ لمسلم أنه قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (لا تلقوا الجلب)، قال النووي في شرحه لهذا الحديث: "الشرع ينظر في مثل هذه المسائل إلى مصلحة الناس, والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد, لا للواحد على الواحد, فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق, واشتروا رخيصاً, فانتفع به جميع سكان البلد, نظر الشرع لأهل البلد على البادي, ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة, وهو واحد في قبالة واحد, لم يكن في إباحة التلقي مصلحة, لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية, وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص, وقطع المواد عنهم, وهم أكثر من المتلقي, فنظر الشرع لهم عليه"أ. هـ. وما صرح به النووي هو إحدى الحكم التي من أجلها حرم الشارع تلقي الركبان, وفيما صرح به من نظر الشارع إلى مصلحة العامة إشارة إلى حكمة أخرى يمكن التماسها, وهي أن المواطن إذا تلقى الركبان, فاشترى البضاعة منهم جميعاً, أو كان لهم سمساراً, فإنه بطبيعة الحال سيحول بينهم وبين السوق, فيقل العرض؛ لأن العارض واحد, وهو المتلقي, وليسوا جماعة, وبهذا تغلو الأسعار, ويتضرر أهل السوق, ولهذه الحكم وغيرها منع الشارع الحكيم من تلقي الركبان.
وبعد هذا كله.. أتساءل كما يتساءل كثيرون: أسعار الحديد من يصنعها؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي