رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


البخل بالشهادة

أثارت أحداث غزة الكارثية سجالا استفزازيا حول مصطلح "الشهيد" لغويا في الظاهر، ثقافيا عقائديا في المضمون، بل الواقع، أنه كان قد بدأ مع تنامي فرق الصحويين والتكفيريين التي فرخت تزمتاتهم الإرهاب والأعمال الانتحارية .. وفي هذا السجال رأى فريق أن المقاومين أو الانتحاريين أو الذين يسقطون ضحايا الحرب الغاشمة شهداء بينما اكتفى الفريق الآخر بحسبانهم قتلى ولا غير!!
والحقيقة أنه لم يتعرض مصطلح (شهيد) على مدى تاريخنا، إلى تلطيخ سمعة ولغط مثلما هو حادث في الوقت الرهن، وإن كان قد مورس عليه هذا التشنيع منذ ثمانينيات القرن الماضي في الأدبيات الغربية، لكنه بلغ أوجه مع تسلم الرئيس جورج دبليو بوش زعامة الولايات المتحدة الأمريكية المتزامن مع كارثة 11 أيلول (سبتمبر) 2001. حيث استحوذ على إدارته اليمين المحافظ الذي مارس سطوة (مكارثية) جديدة شن فيها حملة شرسة ضد كل اتجاه لا يسبح في فضائه، سواء كان منتدى، هيئة، جمعية، منظمة، أو أفرادا مستقلين وكانت الهجمة ملغومة بالتهديد والوعيد، تلميحاً أو تصريحاً، لكل من يبدي تعاطفا مع المقاومة أو ثقافتها، سواء في فلسطين أو العراق. أو لبنان حتى إن المثقفين العرب استشعروا خطرا في احتمال تعرضهم فعليا للمحاسبة وإقامة دعاوى ضدهم تحت ذريعة دعم الإرهاب وربما الوصم به!
إزاء ذلك ارتج على بعض المثقفين العرب، تشوشت ذهنياتهم، باتوا في حيرة من أمرهم، فهم من ناحية يرون الخطاب السياسي لبوش يعزف على أوتار الحرية والديمقراطية، والليبرالية وحقوق الإنسان، ومن ناحية أخرى يرون مجنزراته تطحن أجساد أهلهم في تلك البلدان وتمتلئ بهم السجون الرهيبة من (أبو غريب) إلى السري منها تحت مظلة مقولة بوش الشهيرة: (مَن ليس معنا فهو ضدنا) التي تم فيها إدغام ثقافة السلام بالإذعان لوصاية المحافظين الجدد.
في أجواء هذا الظرف المرتبك المكفهر المسبوق بظرف تاريخي مساعد هو سقوط المعسكر الشيوعي ترنح عقل المثقف العربي، فقد البعض توازنه أو تاهت بوصلة الاتجاه، فهو من ناحية لا يحب أن ينظر إليه باعتباره (دأة أديمة!!) – رجعيا، شوفونيا – أصوليا - ينافح عما شب (وربما شاب) عليه، من قيم تتصل بعروبته وبكرامة أمته وبثقافتها وقيمها، ومن ناحية أخرى فهو مأخوذ مبهور بخطاب جديد ألفاظه مفرطة الجاذبية، تراود ذهنه وسمعه وبصره عبر الفضائيات والإنترنت والمطبوعات على نحو لم يعهده من قبل, وفيما هو في الوقت نفسه يستشعر قدرا كبيرا من القهر والظلم يدحر عقله وحسه ليل نهار جراء الغزو للعراق واحتلاله والدعم اللامحدود لإسرائيل يجاهر باقترافها وبغطرسة عرابي تلك الشعارات البراقة!!
في هذا المحشر النفسي (الكافكوي) لم يجد بعض المثقفين العرب بدا من ابتلاع ألسنتهم تحاشيا للوصم بالرجعية أو الشوفونية، حتى لا نقول التطرف والإرهاب لذلك انخرط المثقفون فيما يشبه حفلة تنكرية يتبادلون فيها الأقنعة والأصوات خشية أن تطول أحدهم سهام أصحابه قبل أعدائه!!
على أن هناك بالطبع فريقا ثالثا.. لم يبخل بالشهادة على المقاوم، أو على مَن أقدم على اقتداء الآخرين بنفسه أو من تمت التضحية به أو من سقط ضحية غارات أو تفجيرات، وجازف هذا الفريق بإمساك الجمر بيده وواصل التأكيد على ذلك، حتى إن مسؤولا بارزا وشاعرا كبيرا هو الدكتور غازي القصيبي رفع صوته في حينه بقصيدة الشهداء قال في مطلعها: (يشهد الله أنكم شهداء)!!
وبفتح النظر على ما سبق فإن للمسألة وجها آخر, فالبخل بلقب (الشهيد) بمفهوم وغاية مسوقي الشهادة ومستغليها والمعررين بها كتقية لمآرب سياسية وسلطوية بخل ينبغي دفعه إلى أقصى حد، بالوقوف ضده، فثمة موقف إنساني أخلاقي هنا، لأن الزج بالنفوس والتضحية بها في ظروف غير مواتية على الإطلاق أو ضد مدنيين لا حول لهم ولا قوة بزعم الفوز بالشهادة هو إلقاء بالناس عمدا واستهتارا إلى التهلكة وهؤلاء المسوقون هم مجرد عصابات إجرامية جعلت من دماء الأبرياء متاريس وسواتر لها فأهانت على نحو فادح المعنى القدسي للشهادة، ومن الضروري فضحها مثلما هو من الضروري أيضا تفويت الفرصة على إبقاء الوعي العربي في المنطقة الرمادية، للمطابقة بين البربرية والإنسانية وكأن الإنسان ـ الضحية فأر مجاري دهسته عربة في عرض الطريق!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي