ما بعد القمة
انتهت قمة الكويت على خير، ونريد أن تكون أيضا نتائجها خيرا مستمرا، فهذه القمة عقدت وسط أجواء عربية متوترة غاية التوتر، فجريمة العدو الصهيوني في غزة أربكت الجميع، وأدت إلى كشف اهتراء حقيقي للموقف العربي، وهذا الاهتراء هو نتيجة لخلافات لم يستطع حلها أو معالجتها، فجاء العدوان والوضع العربي في أضعف حالاته، والفلسطيني في أسوأ أوقاته، وظهر الارتباك العربي ومن ضمنه الفلسطيني واضحا وجليا في مواقف غلبت عليها المزايدات، وهو ما أدى إلى تأخر ردة الفعل العربي طويلا، وبعد أن جاء كان أقصى ما نتج عنه هو اللجوء لمجلس أمن كان الجميع يعلم أنه رأس البلاء والمصيبة، وهذا ما تأكد حين لم يحرك ساكنا لتطبيق قراره بوقف الحرب لأنه لم يكن ضمن البند السابع المحرم على كيان العدو بالفيتو الأمريكي، والمخصص للدول "المارقة" على الهيمنة الأمريكية والصهيونية فقط، وهو ما نأمل أن يتغير ولو بعض الشيء مع إدارة أوباما كجزء من مهمته لعلاج الولايات المتحدة من وباء المحافظين الجدد لا ردهم الله. المهم أن القمة عقدت وسط أجواء عربية ملبدة بالغيوم السوداء، وعلى خلفية قمة عربية طارئة سميت قمة غزة في الدوحة عقدت دون اكتمال نصابها، وخرجت بتوصيات كان واضحا أنها للإحراج أكثر منها للتطبيق، وحين بدأت قمة الكويت برزت أجواء التوتر من خطابي الرئيس السوري بشار الأسد الذي يقف على ضفة، والرئيس المصري حسني مبارك الواقف على ضفة أخرى، وبدا واضحا بأن لا جسر ما بين الضفتين، فالرئيس الأسد طالب بدعم المقاومة وعدم المساومة عليها، والرئيس مبارك دافع عن دور مصر القومي منددا باتهامات التخوين والتواطؤ، فكانت البداية لا تبشر بخير، ولكن الخير شع في القاعة حين تحدث رجل الإصلاح والمصالحات الأخوية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز "إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعا عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا وعن الضعف الذي هدد تضامننا، أقول هذا ولا أستثني أحدا منا، لقد مضى الذي مضى، واليوم أناشدكم بالله جل جلاله ثم باسم الشهداء من أطفالنا ونسائنا وشيوخنا في غزة، باسم الدم المسفوح ظلما وعدوانا على أرضنا في فلسطين المحتلة الغالية باسم الكرامة والإباء، باسم شعوبنا التي تمكن منها اليأس، أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا وأن نسمو على خلافاتنا وأن نهزم ظنون أعدائنا بنا ونقف موقفا مشرفا يذكرنا به التاريخ وتفخر به أمتنا"، ولم يكتف بالقول بل قرنه بالفعل حين جمع الرئيسين مبارك والأسد والأمير حمد بن ثاني لفتح باب المصالحة العربية.
لم تقتصر كلمة خادم الحرمين الشريفين على مبادرة إصلاح للبيت العربي من خلال نقد ذاتي بناء، بل حملت رسالة أرى أنها بالغة الأهمية والدلالة، وهي رسالة موجهة للعدو الإسرائيلي ومن خلاله للولايات المتحدة وكذلك للمجتمع الدولي، وما حملته هذه الرسالة تبدى في عبارات لها مدلولها، فحين يقول خادم الحرمين الشريفين "إن الخيار بين الحرب والسلام لن يكون مفتوحا في كل وقت، وأن مبادرة السلام العربية المطروحة على الطاولة اليوم لن تبقى على الطاولة إلى الأبد"، فليس له إلا معنى واحد وهو أن السلام لن يكون هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للعرب في ظل موقف للعدو تميز منذ انطلاقة عملية السلام في مدريد عام 1991، بالتسويف وإضاعة الوقت، وفي الوقت نفسه ممارسة العدوان المستمر مرة على الضفة الغربية ومرة على لبنان وأخيرا على غزة.
هذه الرسالة وما فيها من مضامين التقطها العدو الصهيوني وفهمها بجدية بالغة كونها مرسلة من صاحب فكرة المبادرة، وأحد القادة العرب والمسلمين الأكثر تأثيرا في القرار العربي، وما دفع العدو لأخذه الرسالة بهذه الجدية كونها حملت توصيفا شديد الوضوح كوصف قادة العدو بالقتلة وبالعصابة الإجرامية على خلفية مجازر غزة، وعودة تعبير "العدو الصهيوني" التي اختفت من قاموس الخطاب العربي الرسمي على لسان واحد من أهم القادة العرب وفي مؤتمر قمة عربية، وهذه توصيفات كم جهد العدو على إلغائها من قاموس الخطاب العربي لتمرير ثقافة سلام تمهد لقبول كيانه، ولهذا لم يكن مفاجئا وسط ضجيج العدوان على غزة وما صاحبه من ارتكاب جرائم فاضحة أن يطلق رئيس حكومة العدوان "أولمرت" تصريحا لافتا يقول فيه إنه يقبل مبادرة السلام العربية، والمستغرب فعلا هو مع أنه وبقية عصابة العدو التقطوا الرسالة إلا أنهم ما زالوا في غيهم القديم، ما زالوا يظنون أنه يمكنهم بيع العرب كلمات جوفاء لها صدى ولكن دون مضمون عملي، فهذا الموقف جاء من خلال تصريح لأولمرت لصحيفة صهيونية، وقصد منه فقط كسب الوقت لتعطيل وتأخير بل وتبريد ردة الفعل العربية المشحونة كما عبرت عنها كلمة خادم الحرمين الشريفين، وبقصد التضليل الذي دأب عليه هذا العدو المخادع دوما.
على أولمرت ومن سيخلفه بأن يفهموا أن دماء أطفالنا ونسائنا في غزة، وحجم الوحشية والإجرامية التي ارتكبوها، لن تداوى بمواقف مخادعة مضللة، فقبول المبادرة العربية شيء، ومحاسبة العدو على ما ارتكبه من جرائم شيء آخر، وأن يفهم عربيا أن قبول المبادرة لا يتم من خلال رئيس حكومة منصرم وعبر تصريح إعلامي، بل يكون بإقرار واضح بالمبادرة من "الكنيست" حتى يكون التزاما لا تجاذب حوله، وحسن فعل حين تم تجاهل تصريح أولمرت، فلم نعد كما يظن شخص منته سياسيا بسبب فضائح مالية سذجا إلى درجة اللهاث خلف تصريح هنا أو إشارة من هناك، فقد بتنا أمام الحقيقة المرة والمؤلمة والتي لا مناص من إحقاقها، فالتاريخ لا يرحم.