مع ما دوف يجب الخوف
كنت إلى وقت قريب أعتقد أن النصب صناعة عربية بحتة يلبس أحياناً ثوب النفع والنصح والإرشاد, كما كنا نتوقع أن الشفافية والمراقبة والتوثيق وكذلك المثل الذي يدعي الغرب أنه يطبقها في تعامله هي صناعة غربية, وتصنيف الدول سنوياً بالنسبة إلى درجة الفساد ويضع نفسه دائماً موقع الحريص والأمين والمستقيم وأن الفساد والمحسوبية هما صناعة رائجة في العالم الثالث ولكنها معدومة في الغرب. وخرج علينا في السنوات الأخيرة أمثلة لسوء السلوك الغربي والتصرف الفردي الذي انطلق في أمريكا في السبعينيات حيث لهف روبرت نيسكو ما يزيد على 200 مليون دولار من أموال المستثمرين ثم اختفى في غابات الأمازون ثم في اليابان ليصيب أحد البنوك الكبيرة بخسارة فادحة ثم انتقل ذلك إلى سنغافورة حيث أدى تصرف أحد الموظفين وطيشه إلى إفلاس واحد من أكبر البنوك الاستثمارية الغربية, ثم تسبب أحد موظفي بنك سوسيتيه جنرال في تكبد البنك خسائر كبيرة قاربت ثلاثة مليارات يورو, وأضف إلى ذلك مشكلات: "إنرون", "رلدكوم", "مارتا ستيورت", و"آرثر أندرسون" ـ ثم جاءت الطامة الكبرى باختلال توازن المؤسسات المالية الكبرى ومشارفتها على الهلاك نتيجة الأزمة المالية التي بدأت بالرهن العقاري وامتدت إلى مرافق الحياة المالية الأخرى فتعرضت مؤسسات مالية عريقة مثل سيتي بنك والبنك الملكي الأسكتلندي وميريل لنش ومورجان ستانلي ويو بي إس السويسري, وإفلاس أكبر البنوك الاستثمارية ليمان براذرز ومشارفة كبرى شركات التأمين العالمية AIG على الإفلاس لولا تدخل الحكومة لإنقادها, وكذلك بنوك الرهن العقاري ـ ولكن الطامة الكبرى كانت اكتشاف السلطات الأمريكية حالة نصب كبيرة وقع ضحيتها كثير من المؤسسات المالية والأفراد والمؤسسات, خاصة بعض المنظمات اليهودية في أمريكا التي وضعت ثقتها في بارني مادوف والعلاقة بين شطارة اليهود ونصبهم وحيلهم المالية ليست بالجديدة, فلعلنا نذكر كونراد بلاك المليونير الكندي الذي استطاع في فترة وجيزة أن يستحوذ على كثير من الصحف العالمية ومنها صحيفة "الديلي تلغراف" البريطانية التي استولى مع زوجته على شركتها ثم دفع بالمجموعة إلى الإفلاس وهو الآن يقضي عقوبة السجن في ولاية فلوريدا, والشيء بالشيء يذكر فإن روبرت ماكسويل أحد أساطين الطباعة والصحافة في بريطانيا قاد مجموعته العملاقة إلى الإفلاس وأفلس بصندوق تقاعد موظفيه وقفز إلى البحر من على متن يخته الفاخر في البحر الأبيض المتوسط الرابط بين هؤلاء الثلاثة كونراد وماكسويل ومادوف هو اليهودية ـ فمادوف بمهارة وقدرات شخصية باهرة في إقناع المساهمين للتعامل معه في ثاني أكبر صندوق للتحوط في أمريكا بحجم خسارة بمبلغ 50 مليار دولار وصل إلى حجمها عن طريق العلاقات والتأثير والخبرات الاحتيالية الكبيرة التي طبقها بنجاح لجذب العملاء والمؤسسات الاستثمارية ومؤسسات المجتمع المدني ككثير من الوكالات والمنظمات اليهودية غير الهادفة إلى الربح التي تعيش على الهبات والعطايا والتبرعات، وقادها ما يعرض لها مادوف من عوائد سخية إلى الاستثمار معه حيث يؤدي لهم باستمرار عوائد سنوية تفوق ما يمكن الحصول عليها معيارياً في السوق الأمريكية ـ الشهير مادوف المطلق الآن بكفالة مقدارها عشرة ملايين دولار يبلغ أكثر من سبعين سنة سناً وقد جمع أبناؤه وأقاربه وأبلغهم أن استثماراته كانت هباء منثوراً وأنه كان يطبق نظرية بونزي الإيطالي الأصل الأمريكي الجنسية الذي طبق أول عملية احتيال في الولايات المتحدة في عشرينيات القرن الماضي حيث كان يأخذ الأموال من المستثمرين ويوزع أموال المستثمرين الجدد على المستثمرين القدامى كأرباح وعوائد مجزية. والجدير بالذكر أنك يجب أن تكون ذا شأن في المجتمع الأمريكي أو يكون لديك واسطة قوية لكي يقبل مادوف استثمارك معه, مبدأه يقوم دائماً على رفض المشاركة إذا لم تكن هناك واسطة قوية تقنعه بأن يأخذ أموالك ويستثمرها ـ إنما توصلت إليه السلطات الأمريكية أخيرا بأن الجهات الرقابية لديها وأنظمة الرقابة والإشراف غير كاملة وأن المستوى الفني لكثير من المفتشين الماليين متواضع علما ودخلاً وتدريبا, وأن الخبرات المحدودة لدى هؤلاء الموظفين وصغر سنهم وضعف تدريبهم وكذلك مستواهم المالي والتدريبي والتعليمي الضعيف وهذه المشكلة المالية العويصة دفعت ريني تيري ماقون أحد أصحاب مادوف ومؤسس إحدى الشركات الاستثمارية قد وجد منتحراً في شقته في نيويورك حيث فقدت شركته ما يزيد على مليار دولار في هذه القضية ـ كما فقد كثير من الأشخاص الذين قادهم الطمع إلى المشاركة مع المحتال مادوف الذي وضع خطة طموحه للنصب منذ نعومة أظافره، فقد عمل منقذاً أو حارساً في الشواطئ ووضع عينيه على أصحاب الرساميل الكبيرة والنماذج الاجتماعية الناجحة وبدأ في عمل السمسرة منذ وقت مبكر واستطاع أن يشق طريقه لرئاسة السوق المالي لـ "ناسداك" في أمريكا ومن ثم ينطلق إلى عضوية الأندية الكبرى في نيويورك وفلوريدا التي تجمع رجال المال والأعمال ويبدأ هناك بوضع شباكه لصيد هؤلاء للاستثمار معه واستغل قدراته المهارية الشخصية والتظاهر الكبير بالنجاح وأن الناس هم في حاجة إليه أكثر مما هو محتاج إليهم, وأن المال والنفوذ والنجاح الذي يدعيه مادوف يأتي إليه ولا يأتي وعندما جمع أبناءه وأقرباءه لإعلامهم بخبر انهيار مؤسسته المالية وقام بتوزيع ما يدعي أنه بقي معه من مال في حدود 50 مليون دولار على أبنائه وأقاربه ومعارفه الخاصين الذي استثمروا معه وتشك السلطات الأمريكية أن مادوف أساء استغلال مناطق ما وراء البحار الخالية من الضرائب في البحر الكاريبي وأوروبا لتهريب وإخفاء كثير من الأموال ـ وشمس تطلع خبر يبان .
والله المستعان