أين العرب من الحقائق التاريخية والعلاقات الدولية؟
قامت القوات الإسرائيلية لمدة أسابيع بتدمير غزة، وإننا نرى أهالي غزة تقصفهم الطائرات من الجو، والمدافع من البحر، والدبابات من البر. في هذا القطاع يقصف العدو المواطنين من فوقهم، ومن تحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. ترى الرضع والأطفال والشيوخ، والأيامى، مُلقين في الشوارع والأزقة، فوق وتحت الأسرة في المستشفيات والملاجئ، في منظر محزنٍ ومخزٍ تذرف من بؤسه العيون بالدموع وتقشعر من هوله الأبدان. والعالم وفي معيتهم العرب ينظرون في صمت كيف تُهدم غزة ثم تندثرُ. والبعض يتساءل: لماذا انقسم العرب على أنفسهم وأصبح غالبيتهم متفرجين على مسرح الأحداث وكأن الأمر لا يعنيهم؟ وللوصول إلى إجابات مقنعة نحتاج إلى تحليل الواقع العربي وفقا للحقائق التاريخية والعلاقات الدولية.
يتضح أن غالبية العرب وطنوا أنفسهم على قبول الصلح والتطبيع مع اليهود لأنهم سئموا الحروب والصراعات وظنوا أن لا منجى إلا بالتطبيع, وهذا يدل على أنهم لم يفهموا بعد حقيقة اليهود. الحقيقة التي نكررها دائما ولا نريد أن نستوعبها أن اليهود لن يتخلوا عن قتال العرب, وهذا العداء ليس وليد اللحظة، فقد بدأت شرارته وأظهره سيدهم حيي ابن أخطب أبو صفية ـ رضي الله عنها، زوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم. لقد رسخ وورث هذا اليهودي لقومه حرب وكراهية المسلمين بعد أن تم أسره عندما نقض يهود بني قريظة العهد مع المسلمين إبان غزوة الأحزاب. أقبل حيي على قومه خطيبا قبل تنفيذ حكم الإعدام وقال لهم "أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل". وعندما أتي به مكتوف الأيدي قال للرسول ـ صلى الله عليه وسلم "أما والله ما لمت نفسي في معاداتك ولكنه من يخذل الله يخذل", فأمر به فضربت عنقه. يريد زعيم اليهود من هذه الكلمات في هذا الموقف العصيب أن يجعل من دين يهود عدوا للدين الجديد، ولقد كان له ما أراد, فالإسلام واليهودية لم يتعايشا على وجه الكرة الأرضية منذ ذلك العهد، ولن ينقطع الصراع بينهما طالما بقي على وجه الأرض مسلم ويهودي. وهذه هي الحقيقة التي لا يريد أن يستوعبها كثير من العرب والمسلمين اليوم وطالما أن هناك يهودا يعيشون بيننا وبيدهم دولة وسلطة فلن تقر للعرب أعين.
كما أن العرب يرفضون تصديق حقيقة أخرى, وهي أن العلاقات الدولية تحكمها عقائد وليس مصالح. فتعامل الغرب مع العالم الإسلامي وتعامل الغرب مع إسرائيل يبني على أسس عقدية. كما يفهم البعض أن الاتحادات والتكتلات الدولية بُنيت على المبادئ العلمانية والسياسية, وهذا غير صحيح. ويظل العرب واهمون إذا ظنوا أن الاتحاد الأمريكي على سبيل المثال يقف عند حد الاتحاد السياسي وأن ليس للعقيدة دور في تقويته وصموده وترابطه. يقول مؤلف كتاب "حكومة العالم الخفية" "إن ربط السياسية بالدين أمر مزروع في الفكر الأمريكي ومن خلاله ظهرت الجماعة الأنجولية التوراتية, وهي التي تحكم أمريكا منذ بداية التحرك للغزو في القرن التاسع عشر", ومن يستمع إلى خُطب الرؤساء الأمريكيين القدماء والحاليين يجد الحس الديني الاستعماري قاسما مشتركا رغم أن ظاهر الوحدة الأمريكية بعيد عن ذلك.
والأدهى من ذلك أن العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية بُنيت على أسس عقدية (مسيحية ـ صهيونية) وما المصالح المشتركة إلا غطاء لهذا الرباط العقدي المقدس بين الدولتين. يكشف لنا هذه الحقيقة الفيلم التلفزيوني الذي أعده القس مايك إيفنز, حيث يقدم التأكيدات حول أهمية إسرائيل للولايات المتحدة بلغة دينية صرفة، فيقول "إذا تخلت إسرائيل عن المناطق التي تحتلها بصورة غير شرعية فإن الله سيدمر كلا من إسرائيل وأمريكا", ويختم القس إيفنز بنداء إلى المسيحيين لدعم أفضل صديق لأمريكا في ذلك الجزء من العالم. وقد وجه نداءه للمسيحيين وليس لجميع المواطنين الأمريكيين, وهذا يدل على أن أمريكا ليست دولة علمانية, كما نظن, بل مسيحية بروتستنتية. واليهود هم الذين أخرجوا للمسيحية المذهب البروتستنتي كي يعادي الطائفة الأصولية الكاثوليكية حتى تبقى المسيحية في عراك مع نفسها، ومن الطائفة البروتستنتية ظهرت طائفة الإنجيلية الأصولية المؤيدة لقيام دولة إسرائيل.
نرى وفقاً لهذه الحقائق أن واقعنا العربي يحتاج إلى إعادة بناء. فعلى العرب أن يدركوا أن العقيدة هي التي تحكم العالم وتدير علاقاته وليس المصالح الاقتصادية والسياسية، لذا يجب أن يستغلوا هذا في التكتل على أساس عقيدتهم لأن العقيدة تحدد الاتجاه وتبرز الهوية وتلم الشمل, وهي أصفى وأنقى وأقوى من أي رباط. إلا أن السؤال يظل قائما: هل ستسمح الدول العظمي للعرب بالاتحاد على أساس عقدي؟ فالذي يخشى منه الوحدة على أساس طائفي وهنا ستكون الطامة الكبرى, فالطائفية ستمزق ما بقي من أشلائهم. الطائفية ظاهرة تفرق اللحمة وتمزق أي دين، ومع الأسف فقد أسهم المسلمون, والعرب منهم بالذات, في إيقاظها وتغذيتها, وها نحن الآن نرى من يستثمرها سياسيا في قضية غزة.