رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


رحيل آخر العمالقة

رحل منصور الرحباني قبل أيام بعد أن سكب عطر كلماته وألحانه في فضاءاتنا وطرز هامة المجد بألماس الإبداع وذهبه على مدى يتجاوز نصف قرن بعمر ناهز 84 عاما، وشغل دؤوب صادق قدره (700) ألف ساعة، فهل نبخل عليه بـ (12) ساعة حزنا، كما قال ابنه (غدي) في تأبينه؟!
قال منصور حين رحل شقيقه عاصي قبل 22 عاما، إن عاصي أخذ نصفه معه وحمل هو أيضا نصف عاصي، واليوم عاد هذا النصف لذاك وتوحدا في الغياب مثلما كانا في دنياهما.. فقد كانا فيها يتقاسمان ذرات جسديهما، أنفاسهما، نبضهما، غوايات الجمال، أطياف الحلم والحفاوة بالحياة ومعانقة الإنسان.
عمل الأخوان رحباني في بداية حياتهما شرطيين ربما بانقياد لا شعوري لإغداق السلام النفسي في أعماق الناس أو لسدانة الأمن فيهم حتى يمرحوا ويسعدوا، تماما مثلما أصبح ذلك همهما وقد مضيا مع الملائكية فيروز يخوضون بهم بحار المتعة ويحلقون بهم في أجواز فضاءاتها يمنحونهم جلال الفن شعرا، مسرحا وغناء طالعا من جهات الروح قادما إليها!!
رحل منصور، بعدما وقف نفسه مع شقيقه عاصي على التقاط خيوط (الزري) نتفة نتفة من على سطوح ضيعات لبنان ومن زواريبها وعب أنفاس الحارات والدروب والحواكير، كما لملم بوله العاشق مفردات البسطاء والمقهورين، ورضع شفيف اللحن من رفيف أسراب البلابل والشحارير والسنونو والحجل والحسون والدوري، وكذلك من رقص السنابل والجداول والزنابق والجلنار والجوري والبيلسان وأوغل مع الميجنا والعتابا والدلفونا والدبكات، ومع أهازيج الصيادين وغناء البحارة ومواويل الرعاة ونداءات البائعين، وانثال مع ميس خصور الصبايا وتماوج ضفائرهن في الريح ومع رفات رموشهن وملح غمازاتهن كما اشرأب مع مهابات الرجال وجلجلة أصواتهم ولمع بواريدهم، وزهو طرابيشهم وبرمة شواربهم وطارح المحاتير والعيارين والعسس وغاص في كنوز الألفاظ والصور والحكايات من مكائدات الواقع ومن علعلات التاريخ جمعها وضمها وكان معها كلها أليفا شعبيا غمس قلمه ووتره في المهجة منها, بينما جلست الحضارات على أطراف أصابعه، وقد جعل من مسحوق همسها ووشوشات نجواها صداحا علويا يشتعل به الرأس نشوة ويركض النبض طربا والعصافير تحبس أنفاسها والظل يمسك عن الزوال.
أما مسرحياته فقد كان الوطن فيها يملأ كراسي الحضور وتبادله أطياف الإنسانية ساعات العرض، فمسرحيات الرحابنة مأدبة كونية شهية كلما تُشاهد يزداد الحضور إليها!!
كتب منصور شعرا زجليا وعربيا آسراً للوطن (سنرجع يوما إلى حينا)، (زهرة المدائن)، (سيف فليشهر)، (لبيروت) وغيرها، كما كتب للناس وللعشق والعشاق، كما لحّن ومسرح بشقاوة الأطفال وعفويتهم مع شقيقه عاصي أعمالا خالدة مثل: جبل الصوان، الشخص، يعيش يعيش، ناطورة المفاتيح، أيام فخرالدين، بياع الخواتم، سفر بالك, صح النوم، المحطة، لولو، ميس الريم، إلى جانب مسرحياته الأخيرة: ثورة الرعيان، المتنبي وسيف الدولة، أيام سقراط, عودة الفينيق ومعها زركشة نفيسة من كنوز الأغاني الخالدة والمقطوعات الموسيقية الفارهة، فأعمال الرحابنة وفيروز الاستثنائية ملحمة خارقة، حتى أنه من العبث تجديد مصدر اللذة فيها أو مكمن الإعجاز أو تحديد ما إذا كان هذا اللحن قد خلق تلك الكلمات أو العكس أو حتى الجزم بأيها من إبداع عاصي وأيها لمنصور .. فتراث الرحابنة مثل الشمس كلي غامر يضيء ولا يُضاء!!
أما وقد رحل منصور عن عالمنا وترك فينا جذوة فنه.. فكأني به قد هيأ لهذا الغياب قوله المدوي بصوت فيروز:
"قد غبت عنه وما لي في الغياب يد
أنا الجناح الذي يلهو به السفر!!"
ويا له هذه المرة من سفر ... رحمك الله يا منصور، فقد كنت محبا عملاقا لوطنك وأمتك وكنت آخر العمالقة!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي