مذاق التخصيص زاد من شهية اقتصادنا الوطني!!
ما لا تُنجزه الحكومة يُنجزه القطاع الخاص.. برامج اقتصادية الكل يتمنى العمل بها ويحظى بشرف تطبيقها حتى أصبحت هذه المفردة على كل لسان, إنه التخصيص. في الأدبيات الاقتصادية عديد من التعاريف للتخصيص لعل من أبرزها تحويل الملكية العامة إلى القطاع الخاص، أو رفع كفاءة إدارة وتشغيل المشروعات العامة من خلال آليات السوق والتخلص من البيروقراطية، وقد يكون القطاع الخاص إما مؤسسة أو شركة أو رجال أعمال أو شركات أجنبية. نُدرك جميعاً أن نشأة هذا الوضع بسبب تملك الدولة عناصر الإنتاج وذلك إما عن طريق التأميم أو القيام بالمشروعات العامة الكبيرة من خلال تحويل أغلب الأنشطة الاقتصادية كالصناعة، المصارف، المقاولات، المرافق العامة.. إلخ ملكا للدولة, وبذلك أصبح دور القطاع الخاص في هذه الحالة محدوداً جدا. يجدر بنا في هذا المقام التذكير بصحة المقولة عن ضعف أداء القطاع الحكومي بشكل مؤكد وعلمي, وذلك باستخدام مؤشرات كثيرة منها الأرباح (الخسائر)، نسبة العائد على رأس المال المستثمر، والقدرة التنافسية وغيرها كثير، حيث إن جزءاً كبيراً من المشاريع العامة يعاني خسائر وانخفاضاً في الانتاجية وهدر جزء من الطاقة الإنتاجية.
منذ بداية الثمانينيات الميلادية أخذ دور السوق في النضج والتزايد وبدأ دور الدولة بالتراجع, وقد عُرفت هذه بطفرة القطاع الخاص أو ما يُسمى التخصيص. وهذا التوجه الاقتصادي ارتبط برئيسة وزراء بريطانيا آنذاك مارغريت ثاتشر التي صعّدت من حدة الهجوم على دور الدولة وإعطاء مزيد من الحرية الاقتصادية للقطاع الخاص، وهذا بالتأكيد ينسجم تماما مع توجهات حزب العمال البريطاني والأفكار الكينزية التي تمنح الدولة دوراً ريادياً أكبر مما نتج عنه تأميم كثير من المنشآت الاقتصادية الكبيرة في ذلك الوقت. دعوات رئيسة الوزراء تتمثل في النظر إلى طبيعة النظام الاقتصادي وذلك بالعودة إلى نظام السوق وبيع صناعات القطاع العام إلى الأفراد والقطاع الخاص، وقد تبعها في هذا التوجه الاقتصادي الرئيس السابق للولايات المتحدة رونالد ريغان الذي دعا أيضاً إلى تقليص دور الدولة وتحويل وحدات القطاع العام من الحكومة إلى القطاع الخاص. لا يخفى على الجميع أن مثل هذه التوجهات مطلب في حقيقتها ولكن حتى نصل الى ما نصبو إليه لا بد لها من تحقيق الكفاءة, وذلك ضمن سياسات متكاملة تهدف إلى تحقيق التحول المطلوب بشكل سلس وضمن الإطارات والمفاهيم المرعية وبما يحقق النفع العام.
ولكي يتم تقييم االتخصيص لعله من المناسب ذكر بعض من إيجابيات هذه السياسة: القطاع الخاص دائما يعمل بكفاءة أكبر من القطاع العام, ولذا فمن المُتوقع أن ترتفع كفاءة القطاعات التي يتم تحويلها للقطاع الخاص, وذلك عن طريق رفع الكفاءة الإنتاجية من خلال وقف الهدر المالي والاقتصادي وتحقيق التوزيع الأمثل للموارد الاقتصادية وبما يتيح إنتاج السلع بكفاءة أعلى عن طريق التحسين المستمر للمُنتج من خلال عمليات البحث والتطوير، وكذلك استخدام العمالة الكفؤة في الإدارات المُخصصة وبما يكفل خفض الفساد الإداري المستشري في القطاعات الحكومية عن طريق الرقابة الإدارية وإبعاد شبح القرارات السياسية عن أداء الوحدات الإنتاجية وبما يحقق استقلاليتها. أيضاً تشمل التوظيف الأمثل للقطاعات الإنتاجية وتجنيب الطاقات التي لا يمكن تشغيلها بكفاءة عالية. من الإيجابيات كذلك توفير مبالغ كبيرة للدولة عن طريق بيع هذه الوحدات وفرض الضرائب على دخول هذه الوحدات التي يتم تحويلها وتوفير الأموال التي كانت تذهب لدعم هذه القطاعات ما يحقق وفراً في الميزانية العامة للدولة. ولا ننسى كذلك دخول القطاع الخاص كمساهم في الخدمات الاجتماعية ما يخفف من الإرهاق الذي تتحمله موازنة الدولة. من المُفيد كذلك تأكيد أن التخصيص يسهم في رفع كفاءة الاقتصاد الوطني ككل, وذلك عن طريق إلغاء الاحتكارات الحكومية وزيادة المنافسة بين الوحدات الإنتاجية ما ينعكس إيجاباً على خفض التكاليف وبالتالي الأسعار وتحسين جودة المنتج. وأخيراً أهمية دور التخصيص في قيام الأسواق المالية وتحريك رأس المال بقصد تطويرها ما يشجع على الاستثمار المحلي وتهيئة الأجواء المناسبة له وجذب الاستثمار الخارجي. السؤال المشروع والمُلح: هل تخصيصة كل مشاريع القطاع العام سيكون ذا جدوى اقتصادية في حالة وضعنا الاقتصادي والتنموي؟ سؤال كبير لكن الإجابة عنه تتطلب المبادرة السريعة من قبل حكومتنا الرشيدة بإنشاء هيئة عُليا تُعنى بالتخصيص وشؤونه مستلهمين الدروس والعبر من الأزمة المالية العالمية، وهذا بالتأكيد يتطلب من الهيئة الجديدة, وبالتنسيق مع المجلس الاقتصادي الأعلى, مراجعة كثير من المشروعات وجدواها ومدى وفائها بمتطلبات الاقتصاد الوطني من قيمة مضافة وتوظيف للأيدي العاملة الوطنية، وكذلك مراجعة شاملة لوضع القطاع الخاص لدينا وتحديد الدور المنوط به فعلاً كمُحفز ومحرك للنشاط الاقتصادي وكرافد من روافد تنويع القاعدة الإنتاجية وبما يكفل تحقيق الكفاءة ووقف استنزاف وهدر موارد الدولة المالية في مؤسسات ومشاريع يستحي المراقب من تسميتها قطاعا خاصا لأنه ليس لها من اسمها نصيب لأن العبرة بالكيف لا بالكم.
وكغيرنا تعّودنا على تكرار نصائح البنك الدولي الداعية إلى الإصلاح الاقتصادي عن طريق تحجيم دور الدولة وذلك بتخصيص المشروعات الحكومية الإنتاجية, وأن ينحصر دور الدولة فقط في تنظيم الأوضاع القانونية والاقتصادية والقضائية لتأمين الحماية الكافية للاقتصاد المحلي.
حقيقة الأمر أصبح دور الدولة هذه الأيام أكثر التصاقا بكثير من المشروعات الإنتاجية والخدمية, وعلى وجه الخصوص المشاريع ذات الصبغة العامة, كالتعليم والصحة والأمن والضمان الاجتماعي. وهذه السلع لا يستطيع نظام السوق القيام بها على أكمل وجه لأن منافعها شائعة ومتعدية بحيث لا يمكن حرمان الجميع من الحصول عليها, وكذلك مَن يستفيد منها لا يضيف تكاليف أخرى على المستفيدين الآخرين. في الآونة الأخيرة زادت وتيرة تسويق كثير من المشاريع الحيوية مثل المياه وتحليتها والطرق والجسور والكباري وطرحها للقطاع الخاص من أجل الارتقاء بإنتاجيتها. حقيقة الأمر تخصيص هذه المشاريع في بلادنا سيرفع من تكلفتها وبالتالي منتجاتها, ولكي تحقق درجة من الربحية لا بد أن تكون على حساب المواطن وهذا سيزيد من الضغوط المالية على كاهله. من ناحية أخرى الضغط باتجاه تقليل التكاليف كي تكون هذه المشاريع مربحة سيكون على حساب الجودة وزيادة احتمال قيام المشروعات الاحتكارية. باعتقادي المتواضع أن تقليص دور الدولة إلى درجة عالية سيكون خطأً فادحاً, فدور الدولة في دولنا النامية أكثر أهمية بسبب ندرة الموارد الطبيعية والتي لا تدعم المزايا النسبية ما يجعل منتجاتنا غير مؤهلة لانخفاض تكلفتها النسبية. من الأهمية بمكان التنويه بأهمية الدور الحيوي والفاعل للدولة كموجّه ومحفز للنشاط الاقتصادي, وأن نجعل التخصيص هدفنا في المشاريع التي بإمكانها الصمود أمام المتغيرات المحلية والدولية مستوفية للشروط التي تخدم الاقتصاد الوطني كرافد حقيقي وتدعم جهود الدولة في خفض حقيقي للهدر الاقتصادي والمالي والاجتماعي.