الوحدة النقدية الخليجية مطلب مهم لكن توقيتها هو الأهم!
عندما اتخذ الزعماء الخليجيون في قمتهم التي عقدت في مسقط 2001 قرارهم التاريخي بإلغاء عملاتهم الوطنية، والاستعاضة عنها بعملة واحدة في موعد أقصاه عام 2010، لم يكن أحد منهم أو من غيرهم يتصور أن السنوات العشر التي تفصل بين تاريخ اتخاذ القرار وتنفيذه ستمضي هكذا بسرعة قبل أن يصبحوا قاب قوسين أو أدنى من رؤية شعوب دولهم يحملون عملة واحدة، كثاني أكبر مجموعة اقتصادية بعد مجموعة الاتحاد الأوروبي، تقدم على هذه الخطوة! وقد كان التفاؤل يغمر متخذي القرار من قدرة اقتصادات دولهم على التأقلم والتهيؤ واتخاذ الخطوات التمهيدية اللازمة قبل حلول أجل إصدار العملة، ومن ذلك تحقيق الوحدة الاقتصادية المتكاملة، ومنها انسياب البضائع، والاتحاد الجمركي, والسوق المشتركة، وفتح الحدود لانتقال المواطنين، والتوظيف, والاستثمار التجاري، وتملك العقار دون حدود، بيد أن المواطن الخليجي أخذ يلمح أنه رغم قرب موعد إصدار العملة عام 2010، وتأكيد الزعماء على التزامهم بهذا الموعد في قمتهم الأخيرة التي عقدت في مسقط عام 2008، إلا أن مدى تحقق عناصر الوحدة في المجالات المذكورة يبدو خجولا في نسبة تحقيقه، ويكشف للمراقب أن المهم ليس اتخاذ قرارات بقدر ما هو الالتزام بتنفيذها.
وفي الواقع أمثلة حية على صعوبة تحقيق الهدف في موعده تتمثل في صعوبة عبور الحدود للمواطن العادي، حتى ببطاقة الهوية، التي يتبين أن إجراءات استخدامها للعبور لا تقل عن الإجراءات ذاتها التي يتطلبها العبور بالجواز، وأن المواطنين ما زالوا يقفون في طوابير طويلة من الانتظار قبل أن يسمح لهم بالعبور، كما تتمثل العوائق في وجود خلافات حول تنفيذ بنود الاتحاد الجمركي، وتوزيع الدخل، ناهيك عن التباطؤ في تنفيذ السوق المشتركة التي مضى على إقرار العمل بها أكثر من سنتين، وفضلا عن ذلك كله فإن المواطن الخليجي ما زال يشعر كالغريب في البلد الآخر.
وكعادتي في مقالاتي، أحاول أن ألخص ما أريد بيانه في صورة نقاط، أحاول أن تكون واضحة، حتى لا يلتبس الأمر على القارئ العادي في فهم المقصد ووضوح المشهد.
1 ـ لا يشك أحد في أن المقصود بالوحدة النقدية هو المواطن، وما سيجلبه له ذلك من إسعاد ورفاه، وتكامل في مصادر رزقه، ووسائل عيشه، وأقلها فروق العملة التي يفقدها عند التبادل والتحويل والتنقل بين الدول، وبقايا العملة التي تمتلئ بها جيوبه، لكن علينا أن نكون متأكدين من ذلك، بإجراء المسوحات الميدانية، واستطلاعات الآراء، والحوارات مع هذا المواطن، وذلك حتى لا نفاجأ بأمر لم نحسب له حسابا.
2 ـ لا أحد يماري في أن توحيد عملة الاتحاد الأوروبي، ونجاحه في ذلك، هو إحدى وسائل تشجيعنا ودفعنا إلى الأمام في اتجاه توحيد العملة الخليجية، أي أننا كنا وما زلنا نتمنى أن يكون لدينا عملة واحدة مثلهم، ما دمنا نملك من العوامل ما لا يملكون، مثل الدين واللغة والعرق، وهذا على الأقل هو ما تمثله وجهة نظر المتحمسين للمشروع لدينا، الذين ربما صرفهم الحماس عن رؤية غير المحاسن على نهج قول الشاعر "وعين الرضا عن كل عيب كليلة"!
3 ـ إن التفكير في إصدار العملة الأوروبية استغرق عقودا، وليس أقل من عقد واحد، كما هو الحال لدينا، ولم تصدر العملة الأوروبية إلا بعد أن عبدوا ومهدوا الشارع العام لها، حتى إذا دخلته لم تجد زوايا أو منعطفات تتعثر بها، ولم يبق مواطن هناك إلا وعرف العملة ومكوناتها، وما تساويه بالنسبة لعملته الأصلية، أي أنه سبقت إصدارها حملات قوية مكثفة من التوعية والتهيئة، جعلت الناس يضحون، حتى بأعتى العملات، التي مضى عليها آلاف السنين، من أجل الوحدة، وطمعا فيما سيجلبه ذلك من رفاه.
4 ـ ومع ذلك، ورغم ذلك، فلم يلبث الأمر أن كشف عن أمور لم تكن دائرة في خلد أعتى العباقرة الاقتصاديين، وأولها أن هذه العملة كانت كالترمومتر، الذي رفع مؤشر الحرارة في ميزان التضخم الاقتصادي، وزاد من قيمة فاتورة متطلبات الحياة اليومية للمواطن، وشيئا فشيئا استمر هذا التضخم، ولم يقتصر تأثيره في الوضع المحلي، بل تجاوزه إلى التأثير في موازين المدفوعات، وجعل الآخرين يترددون في قضاء إجازاتهم في البلدان الأوروبية، بعد أن كانت هي المفضلة لديهم، وبعد أن كان الأوروبيون يتهللون فرحا بعملتهم الجديدة، أصبح بعضهم يتحسر على التفريط بعملته القديمة، ويتمنى لو عاد التاريخ أدراجه ليضعه في موقف الخيار من جديد، كما هو الحال مع الفرنسيين وغيرهم، الذين أصبحوا يغبطون البريطانيين على عنادهم، ونتمنى ألا يأتي اليوم الذي يوقظ فينا الشعور نفسه تجاه إخواننا العمانيين.
5 ـ هناك عوامل مهمة ينبغي ألا تغيب عنا في غمار الشعور بالفرحة بقدوم العملة الجديدة، يأتي في مقدمتها العامل الثقافي، المعزو إلى التعليم والوعي والإدراك، الذي يفصلنا عن شعوب الاتحاد الأوروبي بمراحل، ففي الوقت الذي تكاد تنعدم فيه الأمية هناك، ما زالت بعض دول الخليج عاجزة عن فتح المدارس الكافية لمكافحة الأمية، لتعليم الكبار مبادئ القراءة والكتابة، ناهيك عن إقرار إلزامية التعليم في أنظمتها.
كما ينبغي ألا نتجاهل عاملا آخر خفيا يظلل سلوك البيع والشراء لدينا، الذي ستكون العملة الوحيدة محوره الأساس، فطبيعة الذهنية التجارية في المنطقة، كما يشاهد، يسيّرها الطمع والجشع، واستغلال أي فرصة لتعظيم الأرباح، حتى إن كان على حساب التضحية بأخلاقيات المهنة، وكما رأينا خلال أزمة الغلاء الأخيرة، التي كان من مشاهدها المبالغة في إسقاط أي هامش للارتفاع في سعر السلعة من مصدرها، على سعرها محليا، وسينسحب ذلك دون شك على أسعار السلع عند تقويمها بالعملة الجديدة.
6 ـ رغم التأكيد في قمة مسقط الأخيرة على الموعد، إلا أنه حصل الخلاف على مقر البنك المركزي للعملة، أدى إلى تأجيل القرار فيه إلى وقت لاحق، رغم قصر الوقت الذي يفصلنا عن عام 2010، هذا إضافة إلى أنه لم يتم الاتفاق على اسم العملة وشكلها وفئاتها وألوانها ومشاهدها، وهي أمور مهمة قد يثور الخلاف حولها، كما حصل للمقر، الذي كنا نظنه محسوما، عطفا على المعطيات والعوامل المحيطة، التي تدفع في اتجاه أن تكون "الرياض" هي المقر الملائم، بحكم مكانتها ووزنها، واحتضانها للأمانة العامة للمجلس.
7 ـ أخيرا، فإن المواطن الخليجي يتمنى أن يلمس العملة، ويشبع نظره منها في الموعد المحدد، دون أن يواجه أيا من العوامل السلبية التي ألمحنا إلى بعضها، بيد أن النظرة المتعقلة ترى التأجيل حتى تزول العوائق التي تحد من تحقق الاتحاد الفعلي في مختلف المجالات الاقتصادية، كي تكون العملة بمثابة مسك الختام لها!، بما في ذلك التحول من مجلس للتعاون إلى اتحاد للدول، فواقع الحال يتجاوز مفهوم التعاون إلى ما هو أعمق.
والله من وراء القصد.