حجم المخزون والطاقة الإنتاجية والتحرك السعودي تحدد مسار الأسعار
مع القناعة بأن العام الحالي سيكون صعبا بالنسبة لمنظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك"، إلا أنه من الواضح أنه سيكون لعوامل محددة دور رئيس في تحديد المسار خلال الأشهر المقبلة. فعوامل مثل حجم المخزون المتاح لدى الدول المستهلكة الرئيسة، والطاقة الإنتاجية الفائضة لدى "أوبك"، إلى جانب معدل سعر البرميل الذي يعكس إلى حد كبير حجم العائدات المالية للدول المنتجة وقدرتها على التأقلم مع دخل أقل, وفوق هذا معدلات النمو الاقتصادي، ستظل المؤثر الأساسي في الطلب ومن ثم سعر البرميل.
بدأ العام الحالي بإعلان سعودي غير تقليدي من قبل وزير النفط المهندس علي النعيمي أثناء حضوره ملتقى نفطيا في الهند أن بلاده ستتخطى ما هو مطلوب منها في شكل خفض لحصتها وتقليص حجم شحناتها الشهر المقبل بنحو 300 ألف برميل إضافية ليكون الإنتاج السعودي 7.7 مليون برميل. وهذه الخطوة تعطي مؤشرا من جانبين: أنها تمثل تعزيزا للعزم السعودي للعمل ولو بصورة انفرادية لإحداث توازن في السوق ودفع للأسعار إلى أعلى بالصورة المفيدة لكل من المنتجين والمستهلكين خاصة في ظل الإعلان أن سعر البرميل المستهدف هو 75 دولارا.
ويذكر انه خلال فصل الصيف رفعت السعودية إنتاجها إلى قرابة عشرة ملايين برميل يوميا، وهي معدلات لم تشهدها منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، وهي تقوم بتقليص إنتاجها أيضا ومعدل كبير في غضون بضعة أشهر فقط.
أما النقطة الثانية الجديرة بالانتباه فهي أن الرياض بهذه الخطوة تبدو كأنها عادت إلى دور المنتج المرجح، لكن دون تكليف رسمي من قبل "أوبك" أو إعلان رسمي من جانبها. ولعبت السعودية هذا الدور في مطلع الثمانينيات عندما تدهور الطلب واضطرت "أوبك" لأول مرة في تاريخها إلى خفض سعر الإشارة الذي كانت تبيع به ووضع سقف إنتاجي مع تحديد حصة لكل دولة وإعطاء السعودية دور المنتج المرجح الذي يرتفع وينخفض بإنتاجه حسب حاجة السوق. لكن بما أن السوق كانت متراجعة بانتظام والدول الأعضاء لا تتقيد بحصصها الرسمية، فإن السعودية وجدت إنتاجها في حالة تراجع متصل، الأمر الذي دفعها إلى التخلي عن ذلك الدور، وهو ما فتح الباب إلى ما عرف بحرب الأسعار وقتها.
الفارق هذه المرة أن السعودية تتصرف انفراديا ويمكنها في أي وقت زيادة إنتاجها أو خفضه كما تريد والتقيد بحصتها في إطار الالتزام السائد من الدول الأعضاء رغم أن لها سجلا طيبا في الالتزام بالحصص المقررة.
وهذا ما يشير إلى العوامل الأخرى التي ستؤثر في تحركات سعر البرميل. ففي مطلع هذا الشهر بدأ تطبيق برنامج الخفض الجديد لإمدادات "أوبك" إلى السوق. ومع إضافة ما قررته المنظمة منذ أيلول (سبتمبر) الماضي سيكون حجم الخفض المنتظر في حدود 4.2 مليون برميل يوميا، هو الأكبر في تاريخ "أوبك". المؤشرات السائدة في السوق أن معدل تطبيق خفض الإنتاج تجاوز 50 في المائة بقليل. ومع ملاحظة أن أكثر من نصف الكميات التي ستدخل برنامج الخفض هذا الشهر، فإن هناك احتمالا طيبا لحدوث تقيد أفضل هذه المرة، الأمر الذي سينعكس بصورة إيجابية على سعر البرميل.
وهذا العامل مرتبط بالعوامل الأخرى. فهناك وضع المخزون التجاري لدى الدول المستهلكة الرئيسة الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون الدولية، إذ بلغت في نهاية الربع الثالث من العام الماضي 2.63 مليار برميل، وهو ما يغطي استهلاك 57 يوما وتتجاوز بذلك المعدلات التاريخية بنحو خمسة أيام وتشكل بذلك عامل ضغط إضافيا على سعر البرميل. لكن يلاحظ أن الرقم يقف عند نهاية الربع الثالث، والسوق و"أوبك" على وجه التحديد في انتظار الرقم الخاص في نهاية العام لمعرفة مدى تأثير قرار خفض الإنتاج من ناحية وموسم الشتاء وإسهامه في زيادة الاستهلاك وأثر ذلك النهائي في حجم المخزون.
من ناحية أخرى هناك حجم الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى الدول الأعضاء المرشح لاستمرار النمو بسبب دخول بعض مشاريع التوسعة والمشروعات الجديدة مرحلة الإنتاج إلى جانب خفض الإمدادات في إطار السقف الإنتاجي الجديد, الأمر الذي يرفع حجم الطاقة الإنتاجية الفائضة من 1.8 مليون برميل يوميا العام الماضي إلى أربعة ملايين هذا العام ترتفع إلى 4.8 مليون العام المقبل. فإنتاج "أوبك" ووفقا لبعض التقديرات الثانوية مثل مجلة "ميس" النفطية المتخصصة تراجع بأكثر من مليوني برميل يوميا من 31.4 مليون في أيلول (سبتمبر) إلى 29.3 مليون في نهاية الربع الأول من هذا العام، الأمر الذي يعني التزاما بالخفض في حدود 50 في المائة. ويتوقع لإنتاج المنظمة أن يراوح حول حدود 30 مليونا هذا العام ترتفع إلى 30.7 مليون العام المقبل.
أحد متاعب الطاقة الإنتاجية الفائضة أنها تمثل إغراء للدول الأعضاء في "أوبك" اللجوء إلى تجاوز الالتزام بالحصص المقررة وضخ مزيد من الإمدادات للتعويض عن تراجع سعر البرميل، وبالتالي العائدات المالية.
فوفقا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية هذا الشهر، فإن العائدات الإجمالية التي حققتها دول "أوبك" العام الماضي بلغت 972 مليار دولار بالسعر الاسمي، وإنها مرشحة للتراجع بمقدار الثلث تقريبا إلى 387 مليار دولار هذا العام، ولو أنه يقدر لهذه العائدات أن ترتفع العام المقبل إلى 526 مليار دولار. لكن يبقى السؤال عن مدى قدرة الدول الأعضاء في "أوبك" على التأقلم على معدلات دخل منخفضة.
فالدول الخليجية مثلا التي تعد ذات قدرة أفضل للتعامل مع تراجع العائدات يتوقع أن تشهد تراجعا في معدلات نموها الاقتصادي من 6.5 في المائة خلال السنوات الخمس الماضية إلى نحو 2 في المائة. ويمكن لهذه الدول اللجوء إلى احتياطياتها أو ما يطلق عليه الصناديق السيادية التي تبلغ أصولها مجتمعة نحو 1.2 تريليون دولار، متراجعة أكثر من 800 مليار دولار بسبب الأزمة المالية العالمية الأخيرة.
الأرقام الجديدة الخاصة بالنمو الاقتصادي المتراجع تعتمد سعر 45 دولارا للبرميل مرجعا، وإذا تراجع السعر إلى ما دون 30 دولارا فإنه سيدفع بالاقتصادات الخليجية إلى حالة من الكساد.
لكن من الناحية الأخرى، فإن بقاء سعر البرميل منخفضا يسهم بصورة ما في تحفيز الطلب على النفط. فأسعار النفط المتدنية تعد أحد عوامل الدفع باتجاه النمو الاقتصادي. والقناعة السائدة حتى الآن أن حدوث هذا النمو متوقع في العام المقبل. ومع التراجع المتوقع في النمو الاقتصادي هذا العام بنحو 2 في المائة، فإن الطلب على النفط يتوقع له أيضا أن يشهد تراجعا في حدود 800 ألف برميل يوميا، لكن مع النمو المنتظر العام المقبل، فإن الطلب على النفط يتوقع أن يشهد نموا في حدود 880 ألفا.