رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الأزمة المالية ليست كلها شر

وضعت الأزمة المالية العالمية كثيرا من المفاهيم والأفكار الاقتصادية تحت رحمة اختبار صعب، كما وضعت مناصري ومنظري هذه الأفكار في موضع حرج أمام طلابهم ومن آمنوا بأفكارهم وطبقوها أولاً، ثم أمام مناصري المدارس الاقتصادية المعارضة لهم ثانياً. لذلك، فإن كان في هذه الأزمة خير، فهو أنها أصبحت مختبراً لأفكار اقتصادية تراكمت على مدى عقود من الزمن، من خلال الإثبات النظري، ثم جاء الدور لكي يكون للواقع الكلمة الفصل فيه.
أول تلك المبادئ الاقتصادية مبدأ الحرية الاقتصادية الذي أسس له آدم سميث كإطار يعمل فيه النظام الاقتصادي الطبيعي، لكن أسيء استخدامه والترويج له من قبل من خلفوه سواءً من الاقتصاديين أو من المشرِّعين للقوانين المنظمة لعمل الأسواق المالية. لكن ذلك لا يعني أن يتم التخلي عن هذا المبدأ بالكامل وأن يكون ذلك ذريعة لوضع مزيد من التشريعات بهدف تقييد حرية السوق دون وجود مبرر لذلك. ولكنه يقتضي التعامل معه بحذر وبحسب كل حالة، مع تذكر أن حرية السوق هي الأصل وأن تقييدها هو الاستثناء.
إذ لا يوجد شك لدى أي من الاقتصاديين ودون استثناء في أن حرية السوق الكاملة ستكفل نظرياً ونظرياً فقط الكفاءة الكاملة في توزيع الموارد الاقتصادية وفي تحقيق التوازن الاقتصادي المطلوب. لكن الخلاف هو في قدرة النظرية البحتة على تحقيق ذلك على أرض الواقع والأخذ في الحسبان كثرة العوامل المؤثرة في النموذج الاقتصادي والتي كثيراً ما تخرج لنا بناتج تخالف ما توقعناه من خلال النموذج النظري البحت.
وعلى هذا الأساس فاتخاذ قرار بتقييد هامش الحرية الاقتصادية في ممارسة نشاط أو زيادتها في نشاط آخر، يجب أن يكون مرتبطاً بتحقيق أهداف أو تجنب مخاطر اقتصادية محددة. مثال ذلك: التقييد غير المبرر لممارسة التجارة في نشاط سلعي مشروع بهدف حصر ممارسة هذا النشاط على فئة محددة من الناس، كنظام الوكالات التجارية. وفي مقابل ذلك فإن تقييد حرية النشاط المصرفي أو آلية عمل الأسواق المالية قد تكون مبررة في بعض الحالات بالنظر إلى ما قد يؤدي إليه تحرير هذا النشاط من مخاطر على الاقتصاد بشكل عام.
على الجانب الآخر فإن الأزمة المالية العالمية جاءت لتعيد الاعتبار لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي والدور الذي قد يلعبه هذا التدخل في إعادة الاقتصاد إلى حالة التوظف المطلوبة، إذ أثبتت الأزمة المالية وعلى عكس ما كان ينادي به كثير من الاقتصاديين خلال العقود الأخيرة، أن التدخل الحكومي في بعض الحالات ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها وأنه قد يلعب دوراً مهما في إعادة الاقتصاد إلى مسار التوازن المطلوب كلما انحرف عنه.
لكن في الوقت نفسه يجب التعامل بحذر مع مبدأ التدخل الحكومي، حيث لا يتم استخدامه إلا في الحالات التي تستدعيها الضرورة. ومن ذلك أن تقوم الحكومة بوضع سقوف لأسعار السلع الأولية، والتي إن لم يمكن تبريرها اقتصاديا، فإنه يمكن تبريرها بما تحققه من أهداف اجتماعية. هذا على الرغم من أن التدخل الحكومي من خلال التأثير في العرض أو الطلب للوصول إلى الأسعار المستهدفة هو الوسيلة الأفضل سواءً من الجانبين الاقتصادي والاجتماعي.
إن الأزمة المالية العالمية ستحتم على الدول ترتيب أولوياتها فيما يتعلق بهذين المبدأين بالذات: الحرية الاقتصادية في مقابل التدخل الحكومي. أي أن على كل دولة أن تحدد الخطوط الفاصلة المتعلقة بتقييد الحرية الاقتصادية في نشاط معين أو تبرر التدخل الحكومي في نشاط آخر. وهذه المهمة ليست بالمهمة السهلة، إذ تتطلب ربط تلك الأوليات بأهداف اقتصادية واجتماعية محددة يرغب صانع السياسة الاقتصادية ببلوغها وقد يختلف عليها كثيرون.
والسياسة الاقتصادية للمملكة عملت على مزيج من حرية اقتصادية مبتورة في أوقات ومجالات مختلفة، وتدخل حكومي مفرط وغير مبرر في بعض الأحيان في كثير من أوجه النشاط الاقتصادي. ومن هنا فإنه يجب أن تؤخذ العبرة من الأزمة المالية العالمية لتحديد أولوياتنا فيما يتعلق بمبدأي الحرية الاقتصادية والتدخل الحكومي ولكي لا يكون هناك استخدام مفرط لأحدهما على حساب الآخر بما قد يؤدي إلى نتائج اقتصادية غير محمودة العواقب.
ومن ذلك على سبيل المثال مراجعة السياسات المتعلقة بالسوق المالية التي تتجه إلى مزيد من الانفتاح على الخارج ومزيد من التسهيلات في عمليات التداول وبما يؤدي إلى زيادة وتيرة المضاربة ومن ثم زيادة حدة التذبذب والاضطراب سواءً في حال زيادة ثقة المستثمر أو تراجعها. أي أننا في هذه الحالة نحتاج إلى مزيد من القيود على حرية عمل السوق المالية بهدف حماية السوق من الأموال الساخنة التي تأتي وقت الانتعاش وتهرب مع أول ظهور لبوادر التراجع، وبهدف الحد من المضاربة غير المفيدة والتي تتجاوز هدفها الأساسي بتوفير سيولة مقبولة للسوق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي