رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الناس يكرهون النقد بقدر محبتهم المدح

النفس البشرية جُبلت على كراهية النقد وحب المديح, وهي سجية فطر الله الخلق عليها، فالناس تتحاشى النقد وتبغضه وتظنه غيبة ونميمة يجب تجنبه ومحاربته. ولو كان النقد جسداً لسارت كي تحاربه من الورى زُمر في إثرها زُمر. بينما يعشق الناس المدح ويجلونه ويتلذذون بسماع آياته، ويتقنون علومه وفنونه.
ورغم كراهية العنصر البشرى النقد إلا أن بعض الثقافات تتبناه وتقربه وتتعلم أساليبه ودهاليزه حتى أصبح للنقد نظريات ومهارات وأسس. بعض الأمم أدركت أهمية النقد وفضائله فأصبحت تدرب ناشئتها على قبوله, وتعقد الدورات وورش العمل للبالغين للإفادة منه، ولا يُقر مشروع أو خطة أو برنامج حتى يُخضع للتقييم والتحليل والنقد. وإنك لترى الشخص يبتلع غصة النقد فتكون بردا وسلاما لأنه يعلم أنها تكشف له عيوبه، ومسيرته، ومكامن ضعفه وقصوره.
ثقافات أخرى ترى أن النقد رذيلة يجب تجنبها ظنا منها أنه يعري النفس البشرية ويكشف سوءتها، وهذا في رأيي وهم وضيق أفق. النقد الذي نعنيه يوجه لتقيم السلوكيات والتصرفات والمنظمات ونتائج الأعمال ولا يقدح ألبتة في الذات الإنسانية والكرامات. فشخصية الإنسان مصونة قد كرمها الله, فحقا علينا أن نجلها ونكرمها وألا نقدح في خلقه سبحانه وتعالى. عندما ينتقد الغير سلوكياتنا وتصرفاتنا ونتائج أعمالنا فلا نظنه ينتقد ذاتنا أو أطوالنا أو خلقنا, فهذه ليس لنا فيها حيلة ولا يمكن تغييرها أو ترويضها, بل قبولها كما هي, ومن يتجرأ فقد ارتكب بهتاناً وإثماً مبيناً، ويُعد هذا قدحا مرفوضا وتشهيرا مردودا. أما التصرفات والسلوكيات التي نمارسها نتيجة قناعات مغلوطة وخبرات متواضعة فيتعين علينا وضعها تحت مجهر النقد لتغيير مسارها وتصحيح انحرافها. ورضي الله عن الفاروق حينما قال "رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي"، صاحب المقولة الخالدة "صدقت امرأة وأخطأ عمر".
نعم النقد مرير، ومؤلم، وغير محبب، إلا أنه يهذب القرار، ويبين العيوب، ويصحح الانحراف، ويقمع الغرور. وقد اضطر هلع الناس من النقد إلى التوجه إلى مصادر تمدح وتبجل وتطرح الأكاذيب على هيئة حقائق. ولقد رأيت من يهجر منابع النقد ويولي وجهه لمن يزجي له معلقات في صفاته وأكاذيب في بطولاته. سُئل أحد الحكماء عن سر إكرامه وتقديره أعداءه على حساب محبيه وأصدقائه، فأجاب "أعدائي مخلصون وصادقون, فهم يضعون الحقيقة المرة مجردة بين يدي، أما أحبابي فيتجنبون مصارحتي بما يرونه مني وبما يسمعون وأظل أمشي بين الورى بمثالبي وعيوبي", وأضاف "إنني أتعمد اختلاق الصراعات وتنمية العداوات حتى أعرف من الناس قدر نفسي وحجم إخفاقي". ولقد كان شعاره "مزيد من الأعداء مزيد من الرقي والنقاء". النقد كالدواء الذي رائحته كريهة وطعمه مر إلا أننا نتجرعه ولا نكاد نسيغه لأننا نعلم أنه مصدر شفائنا بعد الله.
بطبيعة الحال النقد لا يمكن أن يعمل في مجال بناء العلاقات الإنسانية ودفع الناس وتحفيزهم للعمل وبذل الجهد. فعلماء السلوك وعلماء النفس وضعوا المديح الذي يؤدي إلى الشعور بالأهمية ضرورة يحتاج إليها البشر في تعاملاتهم. قال سيجموند فرويد "إن أي شيء تفعله أو لا تفعله ينبع من دافعين: أحدهما الرغبة في أن تكون عظيما". كما أن جون ديوي أحد أكثر الفلاسفة الأمريكيين قال كلاما مشابها "إن أعمق الدوافع في الطبيعة البشرية هي الرغبة في أن تكون مهما"، وهذا لن يتأتى دون المدح والإطراء.
إلا أن المبالغة في المديح تقود إلى التملق, وهذا الأخير مكر ورذيلة تُعرف ملامحها قبل أن تخرج من فم صاحبها، رغم أن الاثنين يشتركان في نقطة واحدة اختصرها لينكون في عبارته المشهورة "الجميع يحب المدح". ولا غرابة ولا عيب في أن أبرز لموظفي ولطلابي ولأبنائي المدح الصادق، المحفز، النقي، العاطفي، ليس دغدغة مشاعر كالتملق بل دافع وحافز ومنشط. ومع الأسف فقد تشرب بعضنا عادة "التملق" بسبب احتكاكنا ببعض الثقافات التي تبالغ في المديح وتقصي النقد وتهابه، فلا عجب أن ترى من تجاوز الخمسين يتذلل ويتملق من أجل تحقيق مأربه، وحُق له أن يفعل وحُق علينا أن نعذره، لأنه يريد أن يتعايش مع من حوله ويحقق أهدافه في مجتمع أكسبه الإسراف في المديح والخوف من النقد.
علينا أن نُخضع تصرفاتنا وسلوكياتنا ونتائج أعمالنا للنقد بكل ألوانه وأشكاله, فهذا سيمكننا من السير بخطى واثقة وأقدام ثابتة نحو أهدافنا وغاياتنا فيكون الطريق أمامنا واضحا لا يشوبه غمام، كما يتعين علينا أن نتعايش ونقبل بعضنا فيما عدا ذلك وفيما ليس لنا طاقة في تغييره أو اكتسابه، وأن تكون لدينا المقدرة على التمييز بين المديح المحفز وعادة التملق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي