المقُرِضون والُمقتَرِضون في ظل الأزمة المالية
المقُرِضون والُمقتَرِضون هما طرفا عملية التمويل، والُمقتَرِضون هم من يحددون حجم الطلب على القروض، بينما يحدد المقُرِضون حجم المعروض. وتسعى حكومات الدول من خلال تطبيق جملة من السياسات النقدية والأدوات المالية لموازنة المعروض والمطلوب بما ينعش الوضع الاقتصادي في البلاد ويرفع من الناتج الإجمالي المحلي بمعدلات نمو سنوية ملائمة، وبما يوفر الفرص الوظيفية للقادمين الجدد لسوق العمل على اعتبار أن البطالة من أخطر المؤشرات الاقتصادية ذات الإفرازات الاقتصادية والاجتماعية، بل حتى السياسية السلبية.
في بلادنا تعد الحكومة المطور الأكبر للكثير من المشاريع وفي جميع القطاعات، وهي في وضع مالي أكثر من جيد، حيث تستطيع تغطية تكاليف مشاريعها من إيراداتها ومن موجوداتها المالية التي تراكمت عبر سنوات الانتعاش الماضية، وبالتالي فإن المطور الأكبر لا يحتاج لتمويل، إذ يعتمد على قدراته المالية الذاتية، بل إن الحكومة تعرض (بدل أن تطلب) التمويل على الآخرين من خلال صناديقها التنموية (العقاري، الصناعي، الزراعي) ومن خلال البنك السعودي للتسليف والادخار، الذي يمول الأفراد لأغراض استهلاكية أو استثمارية لمشاريع صغيرة.
القطاع الخاص الذي تدفع به الحكومة ليكون شريكا حقيقيا لها في تحقيق الأهداف التنموية هو من يحتاج التمويل للاستمرارية والتوسع في مشاريعه الإنتاجية والخدمية، خاصة أن هناك كثيرا من المشاريع التنموية الكبرى (الطاقة، المواصلات، تطوير المدن والعشوائيات، المشاريع الترفيهية، .. إلخ)، التي لا تستطيع الحكومة منفردة تطويرها وتمويلها، ما جعلها تدفع بها إلى القطاع الخاص للقيام بذلك شريكا لها بصيغ متعددة أو منفردا بذاته في تطويرها، ولا شك أن حجم التمويل المطلوب لتمويل مشاريع القطاع الخاص كبير جدا (مئات المليارات)، فضلا عن التمويل المطلوب للأفراد للأغراض الاستهلاكية.
القطاع الخاص السعودي يقف اليوم أمام أزمة تمويل كبرى وهو ينفذ مشاريع حالية ويستعد للبدء في مشاريع مستقبلية، ما جعله يتحرك في مسارين أساسيين الأول: تخفيض سرعة إنجاز المشاريع الحالية تحسبا وترقبا، والثاني: إيقاف المشاريع المستقبلية لصعوبة الحصول على التمويل من ناحية، وإعادة دراسة جدوى تلك المشاريع من ناحية أخرى، ولا شك أن ذلك سيكون له أثر سلبي في معدلات النمو المستهدفة، وهو ما سينعكس سلبا أيضا بشكل أو بآخر على النشاط الاقتصادي ومعدلات البطالة بين الجنسين.
المستهلكون من المواطنين والمقيمين في حالة ترقب بالنسبة لشراء المنتجات، خصوصا تلك التي يمكن الصبر على عدم شرائها مثل الأثاث والإلكترونيات والسيارات وهو ما جعلهم بالتالي لا يسجلون طلبا على التمويل الفردي، وفي المقابل يحجم هؤلاء أيضا عن تمويل الشركات والمشاريع من خلال الاكتتاب في الأوراق المالية المطروحة (أسهم، سندات، صناديق استثمارية) على اعتبار عدم جدواها كأدوات استثمار في وقت تشهد به انخفاضات متتالية، وبالتالي فهم لا يسجلون عرضا تمويليا أيضا.
بالمحصلة الوضع التمويلي في بلادنا من حيث المطلوب والمعروض غير واضح، وهو ما يجعل كثير من صناع ومتخذي القرار في القطاع الخاص يقفون مكتوفي الأيدي مراهنين على الوقت ليس إلا في إعادة تخطيط أنشطتهم الاقتصادية من حيث الانكماش أو الاستمرارية أو التوسع، وهي حالة غير صحية تضر بالوضع الاقتصادي في بلادنا، وها نحن نشهد شدا وجذبا غير صحيين بين المنتج والوكيل والمستهلك والممول أدى لعلاقات غير صحية بين عناصر أسواقنا الناشئة التي تحتاج إلى مزيد من الوضوح والشفافية والنضوج والتعزيز.
أوضح خالد بن محمد القصيبي وزير الاقتصاد والتخطيط (أن صدور حجم ميزانية العام المالي 2009 في خضم الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية يعكس تصميم الدولة بالمضي قدماً في مسيرتها التنموية الرامية إلى رفع مستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة، وتوفير فرص العمل للمواطنين، والتوسع المستمر في الخدمات التعليمية والتدريبية والصحية والبلدية والاجتماعية والمياه والبنية التحية في جميع مناطق المملكة، وبما يضمن تحقيق التنمية المتوازنة فيها)، وأعتقد أنه كلام على درجة كبيرة من الصحة، ولكنه يحتاج إلى كثير من الإيضاحات الوصفية الكمية، خصوصا فيما يتعلق بحجم سوق التمويل المطلوب عام 2009 لكي ينشط القطاع الخاص ويستمر في نموه، ليستطيع توفير مزيد من فرص العمل للمواطنين الداخلين لسوق العمل.
أعتقد أننا بحاجة لأن تقوم إحدى الجهات الحكومية بإعداد تقرير يوضح حجم التمويل المطلوب، من أجل الوضع الأمثل للقطاع الخاص للقيام بالمهام المنوطة به كشريك حقيقي للحكومة في تحقيق الأهداف التنموية، كما يوضح آليات توفير هذا التمويل، من أجل أن يتخذ قادة المنشآت الاقتصادية الخاصة قراراتهم على بينة تقيهم شر القرارات عالية المخاطر.