يا دي القمة!!
وجدت نفسي أزفر: "يا دي القمة!!" باعتبار (يا دي..) لازمة لغوية من النوع الذي "صُنع في مصر" تعبر أدق تعبير وأصدقه عن نفاد الصبر والتبرم أو التحسر: (يا دي المصيبة.. يا دي اليوم الأسود.. يا دي النيلة... إلخ) ولعلها الأنسب أيضا في وصف الحيرة من هذا النفير الواسع من الأحاديث والنداءات والخطب والتعليقات الإعلامية والكتابات التي قبلت أو نشرت تدعو القادة العرب وتستصرخهم لعقد قمة عربية من أجل معالجة الأحداث الدامية في غزة.
إننا لو استثنيا مؤتمر التأسيس للجامعة العربية عام 1946 الذي عُقد في مصر في إنشاص في مزرعة الملك فاروق، فسنجد أن قضية فلسطين استأثرت بالنصيب الأوفر من القمم الـ (20) وإن كانت القضية الفلسطينية قد تدهورت (لا تطورت كما يُقال) إلى ما أصبح يُعرف بمشكلة الشرق الأوسط أو الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
وكان العرب والأعراب خلال تلك العقود الستة الماضية (على مستوى النخب المثقفة أو الشارع) الأكثر استهلاكا للسياسة من بين شعوب الأرض قاطبة, وكانت اللجاجة في الأحاديث العامة سيدة الموقف، تبح الحناجر ويغتال العقل ويسبح الجميع في بحر لجي من العواطف, أما الكتابات والندوات والخطب فبعضها يرسف في أغلال الماضي والبعض الآخر يخبط في العمى الأيديولوجي يعيد فيها هؤلاء وأولئك استهلاك ما ينتجونه في حالة اجترار أو استنساخ مثابر، لا هذا يثوب ولا ذاك يرعوي، حتى كاد الأجداد أن يكونوا هم الأحفاد وبات الحوار أشبه بحوار الطرشان أو مناجاة الصدى!!
ففي كل أزمة تحيق بالأمة، تلهث أصوات النخب المثقفة داعية لعقد قمة وترقص بالتبعية على إيقاعها الشوارع العربية, والعكس صحيح أيضا، وكأن مجرد انعقادها هو تعويذة خلاصنا الوحيدة دونها يتوقف التاريخ أو أن عدم انعقادها إيذان بالطوفان! أو لعلها حيلتنا اللاشعورية في مخادعة الذات لإبراء ذممنا وإنقاذنا من تأنيب الضمير.
والغريب أنه، رغم التاريخ المأزوم للقمم العربية، ورغم الحصاد الهشيم لها يظل إصرار العرب والأعراب لا يفتر حماسه لها ولا يخف ولا تبزغ الحاجة إلى دور القيادات إلا عندما تمر الأمة بأزمة قومية فقط, وهذا منحى يعري فهما معوجا، مغلوطا، لمعنى العمل السياسي ودور القيادة في توجيه مساراته.. إذ توحي المطالبات الملحة من النخب والشارع بعقد القمم عند النوازل والأحداث الطارئة فقط، وكأن القادة، بصريح العبارة، لا يعملون إلا في هذه الظروف الاستثنائية ولا دور لهم إلا تحت ضغط الأزمات.. وهذا المنظور فيه قلب لوظيفة الإدارة السياسية ظهرا لبطن وفيه كذلك اجتزاء وتقزيم، لأنه ينظر للعمل السياسي باعتباره مهمة وقتية ولا غير!!
ذلك بالطبع يتنافى مع مفهوم الدولة ومقوماتها ودورها باعتبارها آلية وظيفتها أن تعمل ليل نهار بشكل يقظ مسؤول، وأن العمل السياسي الذي ترسم مساراته القيادات وتقوم بتوجيهه هو عمل استراتيجي مستمر دائم ينهض على الواقع ويستشرف المستقبل، مما يعني أن منهج العمل يفترض فيه أساسا امتلاكه خاصية الاستجابة للطوارئ أيا كانت، لا تربكه هذه الطوارئ بقدر ما تحفزه وربما تجعله يعيد ترتيب الأولويات حسب الحاجة، أي أن القمم لا يمكن أن تكون هدفا بذاتها ولا تصلح أيضا وسيلة واحدة وحيدة لصيانة حضارة الأمة وصناعة تقدمها ورفعة مجدها وإنما هي جزء من السياق التنموي بكل أبعاده!!
لا أريد في هذا المقام إعادة اختراع العجلة، بيد أن ما سبق قوله فرض نفسه من باب (لزوم ما يلزم) فحجم الصراخ العربي والتهافت على أهمية عقد القمم يعطي انطباعا فاقع اللون وكأن كياناتنا العربية تعمل بطريقة التسيير الذاتي، وأن التقدم شامل ناجز، وأن المهمة الوحيدة التي لا تخضع للتسيير الذاتي هي فقط إدارة الأزمة ووحدها القيادات منذورة للقيام بهذه المهمة فحسب.
هذا جانب من المسألة، والجانب الآخر، يشير إلى أن الإلحاح على أن تتولى القيادات اختراع الحلول السحرية الفورية للأزمة يعفي العقل العربي من مهمته في إنتاج المعرفة والرؤية ويحكم عليه بأنه مهزوز مشوش، بل مدقع لا يقوى على طرح البدائل والخيارات الفكرية القادرة على إحداث تحولات نوعية في أساليب وطرق فهم الأحداث وتحليلها بوعي ساخن وقلب بارد لتجنيب الأمة مغبة الانزلاق إلى أزمات محتملة، ولدفعها كذلك للانعتاق مما هو كائن، دون صراخ أو هياج عاطفي ودون عماء أيديولوجي وإنما بمناهج العلم والنقد الثقافي اللذين تجعجع بهما جامعاتنا وما من طحين بعد، فهل هذا معقول؟ وإذا لم يكن معقولا، فلماذا يعقر العرب والأعراب تاريخهم في عرصات القمم؟!