ماذا لو صدر هذا القرار؟ (1 من 2)
كثيرة هي أحلام اليقظة التي نعيشها، ونتعايش معها حتى إننا لنراها حقائق نستأنس بها، ونحاكي بها الحالة المثالية التي ننشدها، وهذه الأحلام إنما تعبر عن جزء من معاناتنا مع الحياة التي لا نجد لها حلاً، ولكن بالأحلام نستطيع أن ننتقل من حال الواقع البئيس إلى حال الواقع المثالي السعيد. وليس غريباً أن يأتي يوم تتحقق فيه مثل هذه الأحلام إن لم يكن بالكيفية نفسها فعلى الأقل بما يماثل تلك الحالة ولو نسبياً. وهذا المقال محاولة للانتقال بكم أعزائي القراء، لنعيش هنيهة من أحلام اليقظة مع حكاية قرار. قد أرى ويرى غير كثير أهميته للمجتمع ولمستقبل الوطن وأبنائه، كما أنه قد يُفسر من قبل بعض العارفين على أنه جزء من أحلام اليقظة، ولنكن على موعد مع الانتظار هل يتحقق هذا القرار الحلم، أو جزء منه، أم نعيش ما بقي لنا من العمر نتحدث عن ماذا لو حدث ذاك القرار؟وكيف ستكون ردة الفعل حياله؟
حتى لا أطيل في المقدمات، سأبدأ بسرد ما أسعفني به الوقت خلال هذا الشتاء القارس الطويل من الدوافع التي تبرر صدور قرار من هذا النوع الثقيل، وسأترك لكم أعزائي القراء فرصة التنبؤ بصيغة القرار حتى يحين موعد اللقاء مع الجزء الثاني من هذا المقال، وحينها سأبوح لكم بمحتوى القرار.
مثل هذا القرار يفترض أن يقوم على مجموعة من المسببات التي تؤيد استصدار مثل هذا التشريع، ومنها على سبيل المثال:
1- التوجه العام في المملكة لتطوير الاقتصاد المحلي والذي من أجله دأبت الحكومة الرشيدة خلال الأعوام الفائتة على استحداث المدن الاقتصادية ذات الأنشطة المتعددة، والتي تهدف من خلالها للمساهمة في تنويع مصادر الدخل، وتوفير فرص التعليم العالي التي ستسهم في إشراك المواطن في العملية الإنتاجية. لذلك فالحاجة ماسة إلى إتاحة الفرصة للجميع للمشاركة والمساهمة في إنجاح مثل هذه المدن, وهذا القرار سيحقق هذا الهدف ولو جزئياً. والمدن الاقتصادية ستكون اللبنة الأساسية لتطبيق مثل هذا القرار، الذي سيوفر فرصة لالتقاء الخبرات مع دماء الشباب، لخلق سميفونية إنتاجية تشع بالنشاط، وتمتلئ بالخبرة، ليزيد الوطن رقيّا وعلوا.
2 ـ اكتسب بعض المواطنين خلال عقود الرخاء التي عاشتها وتعيشها المملكة بعض العادات والسلوكيات التي لا يمكن وصفها إلا بأنها عادات استهلاكية لا تستثمر كامل طاقتهم الإنتاجية، فنسبة أوقات الفراغ لدى كثير من المواطنين طويلة، والتمييز الطبقي ـ إن جاز التعبير ـ بين الوظائف من خلال القبول بأداء بعض الأعمال ورفض القيام بالبعض الآخر ـ على الرغم من عدم وجود الإمكانات العلمية الكافية أحياناً ـ كل هذا يدعو لإحداث تغيير جذري في ثقافة المجتمع نحو هذه الظواهر. فالعمل عموماً ليس عيباً ـ ولأن يكسب الشخص ماله بعرق جبينه خير له من أن يسأل الناس إلحافاً ـ وهذا ما يحث عليه ديننا الحنيف. وللوصول إلى هذا الهدف على المستوى البعيد وحتى تهيئ الشباب للقبول بالعمل في كل الوظائف المتاحة لهم حسب إمكاناتهم يجب أن تكون البداية من خلال إقرار مثل هذا القرار الذي سيوفر لكل الأطراف الفرصة الوافية للاختيار والتمييز من خلال كل المعطيات.
3 ـ في التقرير الإحصائي السنوي للمؤسسة العامة للتقاعد فإن عدد المتقاعدين الأحياء حتى نهاية العام المالي 1427/1428هـ شارف ما يزيد على 332 ألف متقاعد، وفي التقرير ذاته إشارة إلى أن عدد المتقاعدين الأحياء الذين يمثلون الفئة العمرية أكثر من 40 عاما إلى 69 عاما تعادل 73.3 في المائة, وهذا يعني أن أكثر من 257 ألف متقاعد تقريباً، يُعدون في الفئة العمرية القادرة على الإنتاج, وهذا يعني أن المملكة لديها أكثر من 200 ألف خبير ومستشار، تستطيع مشاريع الأعمال القائمة الاستفادة من خبرات جزء كبير منهم ومن دون أن تتكلف هذه المشاريع تلك الأرقام الخيالية التي نسمع عنها عند جلب خبراء لا نعلم عن مستواهم الحقيقي إلا أنهم أجانب، وربما أنهم لا يفقهون في تخصصاتهم التي قدموا من أجلها شيئاً.
4 ـ طبقا لتصريح صحافي نشرته وكالة الأنباء السعودية في 24 ذي القعدة 1429هـ فإن عدد الطلاب والطالبات في مراحل التعليم العالي التابع لوزارة التعليم العالي، بلغ أكثر من 700 ألف طالب وطالبة، وفي تقرير الإنجازات السنوي الذي نشرته المؤسسة العامة للتدريب التقني والفني للعام المالي 1427-1428هـ يبلغ أكثر من 147 ألف متدرب ومتدربة. هذا العدد الضخم من أبناء المملكة وبناتها سيزخر بهم الوطن في أقل من خمس سنوات في كل الأحوال، وسيكونون في حاجة إلى إيجاد فرص توظيف جديدة تتناسب مع خبراتهم، وتمنحهم العوائد المجزية التي تكافئ خبراتهم المستفادة، وعلومهم المكتسبة، ولذلك فهم في حاجة خلال أوقات دراستهم إلى اكتساب الخبرات العملية النافعة، للمساعدة على تحسين مستوى الدخل الخاص بهم وللقضاء على أوقات الفراغ التي يُعانونها، لذلك فهذه الشريحة الكبيرة في حاجة إلى إصدار مثل هذا القرار.
5 ـ تشير الأرقام المعلنة من قبل وزارة العمل في المملكة، إلى أن عدد العاطلين عن العمل يفوق 450 ألف شخص، وهذا ما نشرته مجلة Arabian Business.com في 29 أيار (مايو) 2008، الذي أشار إلى أن معدل البطالة العام للسعوديين يبلغ 11.2 في المائة، وهذا الرقم يمثل الأشخاص المؤهلين والقادرين على العمل الذين يعانون عدم إمكانية إيجاد العمل المناسب.
6 ـ يعمل في المملكة عدد كبير من العاملين القادمين من الخارج، ومع ما يقدمونه للمملكة من خدمات ومساهمة في البناء والتقدم، إلا أنه يبقى هناك جزء كبير منهم يمكن الاستغناء عن خدماتهم لتوافر الأيدي المحلية القادرة على أن تسد مكانهم، وهذا بلا شك سيعود على الوطن بفوائد عديدة اقتصاديا، وأمنيا، واجتماعيا، فبنظرة سريعة لرقم التحويلات السنوية لشريحة العمالة القادمة للمملكة نجد أن الرقم يفوق 60 مليار ريال سنوياً حسب التقرير السنوي لمؤسسة النقد السعودي عام 2007، وهذا الرقم يضع المملكة في المرتبة الأولى في تحويلات العاملين للخارج كما أدرجه موقع الأسواق العربية في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2008. هؤلاء العاملون لا يستثمرون أموالهم في المملكة وإنما يُعدون طاقة استثمارية مهدرة خلال فترة إقامتهم في المملكة, خصوصا إذا علمنا أن ما نسبته 71 في المائة من هؤلاء العاملين لا يملكون حسابات بنكية في المملكة (حسب دراسة قدمتها صحيفة "الشرق الأوسط" في عددها 8936. إن هجرة هذة المبالغ سنوياً تؤثر في الاقتصاد الوطني وتُثقل كفة ميزان المدفوعات الخارجية بأرقام من الأجدر أن يستفيد منها الوطن وأبناؤه. وفي تقرير نشرته صحيفة "عكاظ" في عددها رقم 2742 المنشور في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2008 جاء فيه أن 88 في المائة من وظائف القطاع الخاص تستأثر بها العمالة الوافدة، وبين التقرير أن من أهم الأسباب لعدم حصول المواطن على هذه الوظائف، وجود العمالة الرخيصة, إضافة إلى بعض الأسباب الأخرى. أحياناً كثيرة تعاني هذه العمالة الرخيصة انخفاض المستوى التعليمي، وهذا يقود بعضهم أحيانا إلى التفكير في تحقيق الكسب السريع على حساب الأمن والأخلاق، ما يزيد نسبة الجرائم المرتكبة في المجتمع بأيدي هذه الفئة. وهنا لم تسعفني محركات البحث على الشبكة الفسيحة بتقارير عن هذا الموضوع ولكن من قراءات الصحف المحلية خلال العام الماضي يتبين حجم مثل هذه الجرائم.
إلى هنا نصل عزيزي القارئ إلى حقيقة مفادها، أننا نعاني حجم العمالة الأجنبية في المملكة التي أثقلت كاهل المجتمع والاقتصاد كثيرا، وفي الوقت نفسه يتوافر لدينا جزء من الطاقة القادرة على العمل, التي لم نستثمرها الاستثمار الأمثل.
أعلم أن الأفكار كلها اتجهت نحو نظام العمل، وأن وزارة العمل هي الفارس الملثم الذي نبحث عنه جميعا لسن التشريع الناجع لهذه المعضلة التي أرهقت عقولنا جميعا، وأكاد أجزم أن كثيرا من القراء وصلوا إلى صيغة قرار لحل هذه المعضلة, ولكني سأرجئ الإعلان عن القرار الحلم الذي سنعيشه سويا الأسبوع المقبل ـ بحول الله وقوته ـ لاستجلاء الوضع القائم، ودمتم بخير.