رحم الله شعباً عرف قدر نفسه
علَّق أحد القراء الأفاضل على مقال كتبته منذ أيام حول مستقبل الأجيال بعد النفط، متسائلاً لماذا لا نستثمر من الآن في الصناعات الثقيلة ونستخدم الشباب العاطلين الذين يبحثون عن العمل، سؤال كبير من رجل متفائل. ولا نشك في أن هناك الكثير من أبناء شعبنا من يظنون أن إقامة الصناعات الثقيلة أو الخفيفة لا تحتاج إلى أكثر من مجرد اقتراح، وينسون أن كل ما ترى العين في بلادنا اليوم من تشييد البناء وتشغيل مصانع القطاع الخاص وجميع المهن الأخرى من خبازين وحلاقين وعمال نظافة وقيادة مركبات النقل العام وتشغيل محطات الوقود حتى مهنة البيع في المتاجر، والقائمة طويلة، يشغلها الإخوة الوافدون، بينما أبناؤنا الشباب الجاد منهم يبحث عن وظيفة مكتبية ويفضل الدوام الواحد.
والعاطلون عن العمل الذين يشير إليهم صاحبنا، الأكثرية منهم لا يؤهلهم مستوى تعليمهم إلا للوظائف المهنية البسيطة، حسب تقارير وزارة العمل الموقرة، ومع ذلك فهم يرفضون العمل في تلك المهن التي تتناسب مع مستواهم التعليمي، وليسوا مادة صالحة للعمل في المصانع المعقدة الحديثة التي تحتاج إلى مستوى عال من التعليم الأكاديمي المتخصص والتدريب المهني المتقدم. صحيح أن الرواتب والمكافآت التي يقدمها القطاع الخاص للمواطن لا تتناسب مع متطلبات مستوى المعيشة في المملكة، ولكن هذا موضوع آخر، ولا يجب أن يكون عقبة أمام طالبي العمل من المبتدئين.
وفي واقع الأمر إن نظرة فاحصة إلى وضع الأغلبية من شبابنا ومدى استعدادهم لدخول المنافسة في الأعمال المهنية الشاقة وعالية التقنية، ستصيبنا بالإحباط. وليس هناك غرابة في الأمر، فالملامة تقع علينا نحن الآباء والأمهات وعلى المجتمع ككل. فتصرف الأبناء وقتل نشاطهم وطموحهم يعكس طريقة تربيتنا لهم، لأن جُلَّ همنا هو البحث عما يجلب الراحة والرفاهية لأبنائنا وحسب. فإلى جانب الإغداق عليهم بما يشتهون، نسارع إلى إهدائهم أفخر أنواع السيارات وهم لا يزالون في سن المراهقة، وهو ما لا يمكن أن نشاهده حتى في أغنى بلدان العالم. ولك أن تتخيل أين سيقضي أغلب الشباب ما تبقى من يومه الدراسي وأين سيذهب بسيارته الفاخرة وجيبه مليء بالنقود، وفوق ذلك يملك حرية مطلقة! وزيادة في البذخ، تجد أن كل فرد من الأولاد في البيت الواحد يملك سيارته الخاصة، ونادراً ما يلبي الشاب حاجة أيٍّ من أفراد العائلة، بما فيهم الشخص الذي اشترى له المركبة. ونسبة كبيرة من حوادث الطرق غالباً ما يكون أحد الأطراف فيها شاب متهور، لأن غالبية حديثي السن عندنا هم أقل مَنْ يتقيدون بنظم وقواعد سير المركبات. ومن الإسراف في تبنِّي جميع أنواع الكسل، فإنك لن تشاهد شاباً يقتطع جزءاً يسيراً من وقته الضائع حتى لغسل وتنظيف مركبته، ولكن ليس لديه مانع من أخذها إلى محال الغسيل في محطات الوقود والانتظار حتى ينتهي العامل من تنظيفها. وتصرفنا مع أولادنا نابع من العاطفة الأبوية التي تملكنا أكثر مما نملكها فنستخدمها في غير محلها. فلا غرابة أن يكون طموح أولادنا عندما يحصلون على ما شاء الله لهم من المستوى التعليمي البحث عن الكرسي الدوَّار في المكاتب. هذه النوعية من الأجيال لا يمكن أن تبني مستقبلاً ولا أن تقبل العمل في المصانع التي كان يتمنى أخونا الذي كتب التعليق وجودها. ومما يدل على عدم جدية أبنائنا وبناتنا غياب الرغبة لديهم لاستغلال أيام العطلة المدرسية الطويلة فيما ينفعهم، وقلب حياتهم خلالها إلى نوم في النهار وسهر في الليل. وعذرهم في ذلك أنه ليس لديهم ما يشغل وقتهم خلال وقت النهار، وهو عذر واه لأن نبض الحياة يكون في النهار، أما الليل فهو وقت النوم والراحة، وهذه أيضا فريدة ننفرد بها دون غيرنا من شعوب العالم.
وقسم كبير من أولادنا وبناتنا ينهضون من المائدة بعد الأكل دون أن يشارك حتى في حمل الأطباق، في انتظار العاملة المنزلية لتقوم بذلك. وهذا مبدأ غير مقبول لأن من المهم تعويد النشء على المشاركة في العمل وخدمة نفسه وإعانة الآخرين في محيط البيت والمجتمع. وكدليل على عدم استعداد شبابنا للعمل في معظم المهن المتوافرة، فإنك لو بحثت في طول البلاد وعرضها فلن تجد فريق عمل واحدا متكاملا من المواطنين يستطيع أن يصمم ويبني منزلاً (فِلاَّ) واحداً دون مساعدة من جنسيات أخرى، دعك من تصميم وبناء مصنع أو عمارة كبيرة. هذا هو شعبنا، يستهلك ولا ينتج. وكثيرون منا عندما يشاهدون ناطحات السحاب في بلادنا والطرق الحديثة والمرافق المتطورة يظنون أننا قد وصلنا قمة الحضارة والتقدم العلمي والمدنية، وهم يعلمون أن تلك المنشآت قد بنيت بأيد أجنبية، ولا يحق لنا أن نفخر بها ونحن فقط متفرجون على عملية إنشائها.
ونخشى أن يظل حالنا على ما هو عليه الآن، ما دمنا نعيش على ضفاف نهر من النفط، ونسعد كلما ارتفعت كمية الإنتاج، دون أن يعلم الكثيرون أن ذلك يقربنا من احتمال جفاف النهر قبل أوانه، وتكون أجيالنا في موقف لا يحسدون عليه من شح في مصادر المعيشة. فالواجب علينا ألا ندع أولادنا وأحفادنا يغرقون في بحر من الرفاهية، والكل يعلم أن المستقبل غير مضمون لهم ولا لأجيالهم اللاحقة. وعلينا أن نغيِّر استراتيجيتنا ومخططاتنا التي تركز على الأهداف قصيرة المدى ولا تتحدث عن مصير 150 سنة من عمر الأجيال. نحن لا نريد أن نخصص أموالاً للحقب المقبلة من الزمن، بل علينا فقط ألا نسرف فيما بين أيدينا وأن نحاول بناء أجيال تقدِّر معنى العمل والإبداع وقبول التحديات بدلاً من الخمول الذهني والبدني. ولا أريد أن أضيف إلى ما كتب ونشر عن طرق التعليم في بلادنا، ولكن المرء لا يسعه إلا أن يتمنى أن يستمر تطوير طرق التدريس لدينا والقضاء على ممارسة التلقين وكثرة الحفظ الأصم الذي يشتت أفكار الطلاب ولا يفيدهم في شيء، بل يقتل فيهم روح الإبداع ولا يعينهم على المقدرة على حسن التعبير. وأن يكون من أهداف التعليم تخريج جيل صالح لسوق العمل ووضع الخطط وإعداد المناهج الكفيلة بتحقيق هذا الهدف.