هل شاهدت فيلم غزة؟!

لم يكن أرسطو يتصور على الإطلاق أن تختلط المأساة بالملهاة (التراجيديا بالكوميديا) وهو الذي وضع لكل واحدة منها حدوداً صارمة، إلا أن تقنية الاتصالات قامت بهذه المهمة (شر) قيام على نحو سريالي عبثي يتخطى حدود الاحتمال ولا يأبه بالتصديق من عدمه, فقد أطاحت تقنية الاتصال بالفضيلة في أحضان الرذيلة والعكس صحيح أيضا ومحت حدود المعقول واللامعقول وقادت الملهاة إلى مخدع المأساة وقادت معها جمهور الكون في فرجة جماعية على جنازة ضميرهم قي سرادق لا عزاء له.. فها نحن، في كل بقاع الدنيا، وغزة تخبط في هول النار والحصار نتحلق على أرائكنا في دفء البيوت وأمنها، نحتسي أقداح القهوة، نتلمظ مذاق قطعة الجاتو، في "لمة" عائلية أو جمع معارف أو لقاء صحبة، نغطس في بهو المزاح، يرشق بعضنا بعضاً بالنكات وتغرد الضحكات في جنبات المكان وتلمع فيه وجوه أطفالنا الغضة فيما شاشات التلفزة تقطر دماً ودمعاً وعويلاً منذ أسبوعين، بينما تتبارى المحطات الفضائية في نقل مشاهد هذا الهولوكس الرهيب حياً على الهواء شهقة بشهقة، لعنة بلعنة في سباق على إحصاء عدد القتلى والجرحى كما لو كانت تعلن نتائج الفائزين بميداليات المسابقات الأولمبية.
في غزة تدير إسرائيل الباغية حرب إبادة وتضرم جحيم محرقة لا أبشع ولا أفدح يرقص لها الشيطان ثملاً في رجس أرجاسه وهو يراها تتخبط في وابل أطنان القنابل والصواريخ وآلاف الغارات الجوية تشوي براءة الطفولة وتسحق كواهل العجائز وتمحق المدنيين اللائذين ببيوتهم المعوزة ولم يجد أهل غزة إزاء ذلك كله سوى المقاومة والصمود، بالصدور العارية دروعاً والسواعد والأظافر أسلحة.
ليست شاشات التلفزة وحدها من خان مواصفات أرسطو، نافستها في الخيانة الإنترنت، وقبلها الصحف والإذاعات فقد نثرت في صحونا شحنات الفزع وفي مخادعنا كوابيس نزفة، نحن الذين خلنا وسائل الاتصال وأجهزته نوافذ على فراديس المتعة وجسورا للتواصل والمحبة أو صناديق سحرية للمعرفة، فإذا بنا ونحن أشقاء أهل غزة، ومعنا حواريوهم من شرفاء العالم مكبلون بمشاهدة غشامة فيلم الجحيم الصهيوني في غزة ونحن على أرائكنا في هذا الكون الوسيع الفظيع!!
وأنها لمفارقه شاذة أن يتابع العالم هولوكوست غزة كما لو كان فيلما من أفلام الرعب أنتجته هوليود أو أنه سيناريو لمعارك أسطورية وليس عرضا حيا لطاحونة الموت والرعب يفوح في شاشاتنا نتجرعه مع وجبة الفطور والغداء والعشاء وفي كل الوقت يحشونا بالغصص والمرارات والإحساس بالعجز المذل حين يصل الضمير العالمي إلى الدرك الأسفل من البلادة والمحافل الدولية والهيئات والمنظمات والمواثيق والمقررات والمدونات إلى هرطقة ولا تملك الأمم المتحدة غير منح الجلاد بركات المضي في وحشيته ولا تملك أمة العرب والأعراب شفيعاً ولا شفاعة لها عند كل من بإمكانهم لجم عربدة العدو الإسرائيلي وردعه .. ولتبق المأساة والملهاة وجهين لعملة قذرة واحدة تمنح المأساة سوادها للملهاة وتمنح هذه لتلك فرصة الفرجة عليها بلا حول ولا قوة رغم كل الكلمات والأصوات المحتجة.. فيا لخزيك أيها العالم!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي