يا أم الدنيا .. عشم لا عتب
من أجمل الألقاب التي تطلق على الدول لقب أم الدنيا كما يطلق على مصر, وصفة أم الدنيا صفة فيها رقة وعطف ومحبة, فالأم دائما هي رمز العطاء والإيثار, وحضنها هو الملجأ بعد الله لمن يبحث عن دفء الحنان والأمان والاطمئنان, ومصر هي فعلا أم الدنيا بتاريخها وحضارتها وثقافتها ودورها, بجريان نيلها العظيم وشموخ أهراماتها وسحر وادي الملوك وأسراره, بعبقها المميز في أزقة الحسين ومنارات الأزهر وبساطة ريفها الأخضر, بلهجة أهلها المحببة والشائعة في كل العالم العربي, ورقة وصلابة شعبها الطيب, وجامعاتها وأدبها وتراثها العربي الإسلامي القبطي المتمازج في أروع صور التآلف والتآخي والعيش المسالم المشترك, بمعاركها الشامخة من تصديها البطولي للعدوان الثلاثي عام 1956 مرورا بصلابتها لتحمل صدمة نكسة 1967, التي تحملتها بقدرة الكبار وانتهاء بجسارة حرب العبور, حرب أكتوبر/ رمضان 1973, التي ردت فيها الاعتبار لكل العرب. هذه هي مصر العظيمة, مصر التي يرنو إليها كل العرب, مصر التي لم تخل مدينة وقرية عربية من المحيط للخليج من معلميها وأطبائها وسواعد عمالها, فهي فعلا أم الدنيا ومنها الدنيا العربية.
في الأزمة الأخيرة والمتجددة والمتمثلة في العدوان الصهيوني على قطاع غزة بكل تلك الوحشية, والذي صب فيه على أهلها المحاصرين المجموعين حمم النار بحقد الصهاينة وعنصريتهم, تعالت الأصوات من داخل غزة وخارجها تطالب الأشقاء العرب, وفي مقدمتهم مصر الشقيقة والقريبة, بالتدخل والإنقاذ, وتركزت هذه المطالبات بفتح معبر رفح أمام الحركة, وخلال هذا الصخب والانفعالات وسخونة الأحداث, انفلتت ـ بكل أسف ـ بعض الأصوات بالإدانة والتشكيك في مواقف الحكومات العربية وتحديدا مصر إلى حد القول إن مصر العربية شريكة في العدوان أو متواطئة أو خائفة. وهذا جزاف من القول لا يليق في هذه الظروف, خاصة الظروف العربية في عمومها والفلسطينية في خصوصها, فمثل هذه الانفعالات غير المنضبطة تسيء وتضر بالمعنويات العربية والفلسطينية التي كم هي في حاجة إلى شحذها وتقويتها, ولا تخدم إلا العدو الذي من مصلحته الكبرى زرع الشكوك والفتن والخلاف فيما بيننا, وما فينا يكفينا, فما جرى وقيل خلال الأيام الماضية من تهم وتشكيك عربي ـ عربي يعكس فعلا أجواء فتنة ستطول الجميع إن لم يسد التعقل والهدوء وعدم الانجراف خلف العواطف الجياشة المفرطة, ويوسع من مدى الفتنة الفلسطينية التي كان من نتائجها استفراد العدو بقطاع غزة لتصبح فتنة عربية شاملة, فبدلا من أن نتفرغ ونتوحد لمواجهة هذا العدو, ووسط محنة أهلنا في غزة, أعطينا ظهرنا للعدو وواجهنا بعضنا بعضا بتهم العمالة شرقا أو غربا, وهذه أكبر خدمة مجانية نقدمها للعدو, فمهما اختلف مع الموقف المصري أو غيره حيال ما يجري, لا يليق ولا يعقل أن تتوجه بعض المظاهرات المنفلتة والغوغائية صوب سفارات مصر العربية وفي عواصم عربية تتهم وتشكك, فالأصوب والأجدى أن تتوجه إلى سفارات أمريكا والعدو وليس لسفارة عربية, فمن حق أي أحد أن ينتقد ولكن ليس من حقه أن يتهم بمثل هذه التهم الشنيعة.
إن أهم وأخطر وأفتك أسلحة العدو ليست طائراته ولا صواريخه بما فيه النووية, وأكبر أدلته صمود غزة المحاصرة المجموعة أمام آلة حرب متوحشة, بل استثارة فتنة عربية ـ عربية كما فعلوا فيما بين الفلسطينيين, وما فعله بعض الغوغائين من متظاهرين وبسوء تقدير منهم أو بمن دسوا بينهم وعدم سيطرة على انفعالاتهم يدخلنا فعلا في فتنة, والعدو ليس بعيدا عنها, فزيارة ليفني القاهرة قبل العدوان بيومين مثلا وظفها العدو بخبث معروف عنه بتسريب أخبار وتحليلات كاذبة وملفقة عن أن مصر أعطتها موافقة على العدوان. وهدف ذلك هو خلق بلبلة عربية تقود لفتنة ـ لا قدر الله ـ فهناك جهات صهيونية متخصصة ومكلفة بشن حرب معنوية ونفسية ضدنا, ومن وسائلها الفاعلة بث تهم التواطؤ والخذلان والخيانة وإلى ما تلك الأوصاف التي يجب ألا تطلق إلا بأدلة وبراهين دامغة, وليس مجرد ردة فعل متسرعة غاضبة.
هذه الأجواء التي انفلتت فيها الأعصاب بفعل سخونة العواطف والنخوة العربية نتيجة مشاهدة العدوان على غزة, كان لها أثر سلبي لدى إخوتنا في مصر, فالشعب المصري لديه حساسية مفرطة تجاه بلده, ولا يتقبل نقدها حتى من إخوتهم العرب, والمؤسف أن يحدث ذلك في ظل وقفة وموقف شعبي مصري رائع ومشرف. وهنا لا بد أن نقول لمصر العربية القلب والهوى, إن ما جرى هو عشم لا عتب, عشم في طلب المزيد ومن بلد كبير, ولكنه ليس عتبا يتهم ويدين وينقص من دور مصر ومواقفها, فمصر كانت وما زالت وكل قياداتنا وشعوبنا ودولنا العربية تقف ويقفون في وجه كل محاولات العدوان ومن يسانده لكسر شوكتنا وإسقاط صمود الموقف العربي بصلابة.
إن معركتنا الأولى والأخيرة يجب أن تكون مع هذا العدو الصهيوني الغاشم وليس مع أنفسنا ومع بعضنا بعضا, فمهما اختلفت رؤيتنا وتباينت مواقفنا يجب ألا يصل الأمر إلى حد التخوين, فعلينا أن نتمسك ولو بالحد الأدنى من وحدة الموقف لتستمر المعركة في طريقها, وشعارها يجب أن يبقى قول الشاعر المصري علي محمود طه بلحن وصوت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب:
أخي جاوز الظالمون المدى
فحق الجهاد وحق الفداء