ميزانية عام 2009.. رؤية شاملة
تبدو أرقام الميزانية في نمو معتدل ومتدرج لتدل على الخط الاستراتيجي المتحفظ جدا الذي تنتهجه وتتسم به الحكومة السعودية في جميع أجنحتها وقطاعاتها. فقد ازداد الإنفاق المخطط لعام 2009 م بمقدار متحفظ 15 في المائة تقريبا عن عام 2008،وهذا يعكس تراجعا مقداره 6 في المائة تقريبا في الإنفاق المخطط لعام 2009م عن الإنفاق الفعلي عام 2008م. وقد كان بالإمكان انتهاج استراتيجية أكثر انفتاحا وتوسعا أن تزداد الميزانية بمعدل 30 - 50 في المائة أو أكثر لتوفر عدة عوامل منها تحقيق فائض في العام السابق يصل إلى نحو نصف تريليون ريال سعودي وما تمتلكه الدولة من احتياطات ضخمة متراكمة وكبيرة تم دعهما بواسطة فوائض ميزانيات السنوات القليلة الماضية أثناء انتعاش وطفرة سوق النفط، ومنها الحاجة الملحة لدفع أكثر للاقتصاد السعودي المتباطئ والمتراجع بسب الأزمة المالية العالمية. ولكن اتجاه الدولة لاختيار الاستراتيجية المحافظة ربما جاء للاحتياط من التضخم وكذلك لمواءمة محدودية جانب العرض من المقدرات والإمكانات من الموارد الاقتصادية والإدارية، ومراعاة لنمو المجتمع المتوازن والذي يأخذ في الحسبان الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية، وكذلك لمجابهة احتمالات استمرار عجز الموازنة لسنوات متعددة مقبلة.
وتتميز ميزانية هذا العام 2008 بالتركيز على بند المشاريع لتحقيق 225 مليار ريال وهو 47 في المائة من إنفاق الحكومة مما يدل على الاهتمام بدعم الاستثمار وبرامج التنمية في مقابل الإنفاق الإداري والاستهلاكي العام، كما تتميز ميزانية هذا العام بدعم التمويل العقاري برأسمال قياسي بالنسبة للسنوات السابقة، إذ وصل دعم الصندوق العقاري إلى 25 مليار وهذا يتناسب مع العجز في عرض المساكن وتنامي الحاجة إلى الإسكان من فئات الدخل المتوسط والمحدود.
ولابد من ملاحظة أن مؤشرات التنمية الاقتصادية المدنية قد تكون أكثر دلالة و وضوحا ودقة إذا ما قورنت أرقام نمو القطاعين المدني والعسكري، وهي ما يمكن إجراء حساباتها بالرجوع إلى البيانات الحالية والسابقة لميزانيات الحكومة خلال هذين العامين. ففي هذا العام يدل الاقتصار على إظهار أرقام القطاع المدني (60 في المائة من إجمالي الإنفاق) على الأولوية التي تعطيها الدولة للتنمية الاقتصادية المدنية والقطاع الخاص، ويتضمن أيضا الإيحاء إلى المستثمرين المحليين والدوليين والمواطنين بالاستقرار الأمني والعسكري الذي يتطلبه نجاح وتقدم التنمية.
وإذا كانت أرقام الميزانية المخططة ضخمة فإن المهم هو تفعيل برامج التنمية والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية ليس بتمويل الإنفاق الفعلي فحسب وإنما باشتراك فاعل من الموارد الاقتصادية من القطاعين الخاص والعام. فلإنجاح فعاليات برامج التنمية لابد من زيادة دور ومشاركة القطاعين الخاص والعام (الخيري والتعاوني) في مختلف برامج القطاعات التعليمية والصحية والاجتماعية.
فلو تناولنا قطاع التعليم فسنرى أن الدولة خصصت 122 مليارا وهو ما يشكل 26 في المائة تقريبا من إجمالي الميزانية وهذان مؤشران رئيسان يدلان على اهتمام الدولة بالتعليم والتدريب والابتعاث والبحوث العلمية. ولكن يلزم لتحصيل الثمرات والنتائج الايجابية من هذا القطاع أن يصحب هذا التمويل الضخم تضافر جهود عدد مهم من المؤسسات والأفراد من القطاعين الخاص والعام (الخيري والتعاوني) لدعم المؤسسات الحكومية التعليمية والتدريبية (عبر وسائل مختلفة) بالجهود التعاونية والخبرات والمال. على سبيل المثال لا زلت إذا تأملت أوضاع المدارس الحكومية في أحياءنا تشعر أنها ليست على أفضل المعطيات وأرقى الإمكانيات بل إن بعضها يعمل بالحد الأدنى، كما أنك تجد الطاقم الإداري والتدريسي في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية ليست محفزة معنويا وماديا في الدرجة الكافية – كما أن الأجهزة الإدارية للمدارس ليست دينامية وتعمل بانطلاق بعيدا عن البيروقراطية والمركزية المهيمنة لإدارات وزارة التعليم. والذي ننادي به أن تدرس استراتيجية أنظمة جديدة لإعادة تكامل المدارس مع المجتمع المحيط بالاستفادة من ذوي الخبرات والأوقات وذوى الملاءة المالية، ودون هذه الاستراتيجية ستظل المدارس في وضع أقل من المقبول من حيث مقدرتها على تكوين الكفاءات وصناعة الأجيال وتأهيل وتدريب الأبناء، ومن ثم إحداث الآثار التربوية والتعليمية المناسبة لتطوير أبناء الوطن ليتمكنوا من المساهمة بفعالية وكفاءة في إحداث النمو والتنمية الاقتصادية الكافية والمشرفة لمجتمعهم وأمتهم.