برنامج تطوير التعليم .. مهما حاولوا تلميعه أراهن على فشله
في مقال الأسبوع الماضي تطرقت إلى الخطوة الجريئة التي أقدم عليها برنامج تطوير التعليم التابع لوزارة التربية والتعليم الملقب بـ "تطوير", الذي كنا نأمل التريث قليلا حتى تستكمل دراسة وتتضح معالمه. وبينت أن هناك أولويات كان من المفترض أن تستكمل وتطور قبل الولوج إلى هذا الترف التربوي. فهناك أولويات لتطوير التعليم أعظم بكثير من المبالغة في جلب التقنية أهمها على الإطلاق تنمية الموارد البشرية وذروة سنامها تطوير المعلم بصفته حجر الزاوية في العملية التربوية, الذي تتعمد وزارة التربية والتعليم إهماله وتهميشه لأسباب غير واضحة. وفي هذا المقال أريد أن أبين بعض جوانب البرنامج ونلقي قليلا من الضوء على واقع المعلم في بلادنا حتى ندرك حجم المأساة ودرجة المعاناة.
هل تعلمون أنني أتحرج أن أهدي كتابا أو مقالا أو بحثا تربويا لمعلم .. لماذا؟ لأنه ببساطة لن يقرأه، فأكثر ما ينغص مزاجه القراءة والمعرفة والاطلاع. المعلم في بلادنا له خصائص فريدة استمدها من الثقافات التنظيمية المدرسية ومن الحضارات الطائفية المتعاقبة لوزارة التربية التعليم. تجده معلماً للصبية في الصباح ومقاولا لأولياء الأمور في المساء. المعلم في بلادنا صاحب وظيفة مزدوجة, حيث يلجأ بعض المعلمين إلى أعمال لا تليق بمكانتهم كالمقاولات والتجوال يوميا في معارض السيارات لأنهم لا يعرفون كيف يستثمرون في أنفسهم لعدم قناعتهم برسالتهم ولعدم احترامهم مهنتهم. لذا يجب على الوزارة أن توجه مخصصات برنامج البذخ "تطوير" لاختيار المعلم ثم رعايته، وتوقيره وتدريبه، وترسيخ عظم رسالة التعليم في ذهنه، فهذا سيعين الوزارة على التخلص من نصف مهامها الإدارية لأنه سيعفي المدير من مراقبته والمشرف من متابعته. إذا اخترنا وطورنا المعلم فلا نتوقع تغيبه أو تأخره عن عمله وساعاته المكتبية إلا بعذر قهري، ولا نتوقع منه ممارسة أعمال أخلاقية مشينة، ولا نتوقع منه تناول بعض آفات العصر كالتدخين ونحوه، ولا نتوقع منه هجر مدرسته وطلابه في ساعات النهار لزيارة مكاتب العقار، ولا نتوقع من المعلم الجيد أن تقر عينه دون أن ينهي لتلاميذه المهارات والمعارف المطلوبة. المعلمون الأكفاء هم الذين يصنعون القيم والأعراف داخل البيئات المدرسية، لقد رأيت المعلمين الأفذاذ يرسخون هذه المثٌل في مؤسسات تعليمية داخل المملكة وخارجها.
أما برنامج تطوير, الذي لا يعلم أحد إلا الله إلى أين سيتجه بأبنائنا، فطلائع فشله، كما ذكرت في المقال السابق، نراها جلية لأسباب عدة: لم يأخذ حقه من الدراسة, فهو عمل مرتجل مهما حاولوا تلميعه، ركز على مهمة ليست أساسية في التربية والتعليم وهي التقنية، غالبية تجارب وزارة التربية والتعليم كان مصيرها الإخفاق.
وبناء على ذلك ومن مقامي هذا أراهن على فشله بنجاح، فماذا لو صدقت نبوءتي؟ ما مصير الطلاب الذين سحقتهم التجربة؟ وما مصير تسعة مليارات ريال كان من الأجدر أن توجه إلى مشاريع أكثر جدوى كبناء مستشفيات أو سدود أو جامعات أو استكمال البنية التحتية لوزارة التربية والتعليم؟ هل للوزارة آلية لمحاسبة من يعبث بأموال الدولة ويقدم عروضا لمشاريع غير مدروسة يكون مصيرها الفشل؟
إن برنامج كهذا يرينا تخبط وزارة التربية والتعليم وعدم نضجها كمنظمة قادرة على أداء مهامها بفاعلية. فمنذ إنشائها وهي في سيل لا ينقطع من التجارب العشوائية انتهت جميعها بالفشل. ليس لديها أهداف واضحة، ولا رسالة معلنة، ولا خطط مدروسة، ولا تدري إلى أين تتجه. يقول منظرو التخطيط "إذا لم تدر أين تذهب فسر في أي اتجاه", وهذا بالضبط ما تفعله وزارة التربية والتعليم, ليس لديها أهداف ولا خطط واضحة فتسير في أي اتجاه.
أرى أن توضع الوزارة تحت الوصاية وتقيم تجاربها قبل تنفيذها حتى نعينها ونأخذ بيدها كي تصل إلى مرحلة النضج وتكون قادرة على إدارة مرافقها بمهنية عالية, أما العبث الذي نراه فغير مقبول, لأن التعليم أهم خدمة تقدم للوطن قبل المواطن. عندما سُئلت رئيسة أيرلندا عن سر تقدم بلادها أجابت بكلمة واحدة كررتها ثلاث مرات "التعليم .. التعليم .. التعليم"، ولا أظن دولة كأيرلندا من الحماقة بأن تمنح الطالب جهازا محمولا وهو لا يعرف أساسيات المعرفة.
أظن أن الوزارة ضلت الطريق فأصبحت تعيش في أنظمة مغلقة لا تؤثر ولا تتأثر بالغير وتعد خططا فارغة غير قابلة للتطبيق. يقول علماء الاستراتيجية "إن الفرق بين الاستراتيجية وإدارة الاستراتيجية كالفرق بين النجاح والفشل", فمن البساطة إعداد خطة استراتيجية نموذجية إلا أنه في غاية الصعوبة إدارتها. الوضع يحتاج منا إلى وقفات فاعلة وليس إلى شعارات فارغة, فهيا بنا نسعى إلى إيقاف هذه المهازل ونبني خططا واقعية تفضي إلى نتائج منطقية قاعدتها تجارب وخبرات الشعوب ولا نبدأ من ذواتنا ونبتدع طرائق لم تؤصل بعد، وأول بداية المعلم .. المعلم .. المعلم.