نحن هنا د. ساعاتي .. إلا أن زمار الحي لا يطرب
كتب الدكتور المحترم أمين ساعاتي مقاله الأسبوعي في جريدة "الاقتصادية" بتاريخ 2/12/1429هـ، الذي أتى تحت عنوان "أساتذة الاقتصاد في جامعاتنا في اختبار صعب"، حيث تحدث سيادته عن واقع مساهمة أساتذة الاقتصاد في الجامعات السعودية في الفكر الاقتصادي العالمي، وفي الحقيقة أرى أن مقال سيادته موجه إلى كل الاقتصاديين في الجامعات العربية كافة، وهنا اسمحوا لي بالرد والتعليق كاقتصادي وأستاذ جامعي عربي.
سيدي العزيز والخلوق الدكتور ساعاتي، نحن كاقتصاديين عرب (سعوديين وغير سعوديين) لسنا أقل قدرة من نظرائنا في الغرب، بل إن الكثيرين منا تفوقوا على نظرائهم الغربيين خلال فترة الدكتوراة وغيرها، وراجعوا ملفات الجامعات الغربية.. ولكن سيدي .. أين تكمن المشكلة؟
فالاقتصادي العربي يحمل هموم وطنه، ولديه طاقات وقدرات إبداعية هائلة، ولكنه ـ شأنه شأن أي باحث عربي في أي ميدان بحثي ـ يصطدم دائماً بمعوقات لا حصر لها ... لسنا هنا في معرض سرد المعوقات التي يواجهها الباحث العربي، فهي كثيرة، وجلية لكل ذي عين وبصيرة، ولكنه حتى إذا أبدع وأتى بأفكار جديدة - وهو كذلك - فمصيرها النهائي هي الأدراج والمخازن ... أليست هذه هي الحقيقة المرة؟! فربما تنطوي هذه الدراسات على حقائق ونتائج وتوصيات ثمينة لا تقدر بمال، ولكن هيهات ... فعقدة الخواجة تلازمنا ... ألسنا كذلك؟ إذاً زمار الحي لا يطرب.
وهنا أسوق مثالين من تجارب شخصية لي، لا لأحد غيري حتى أكون مسؤولاً عما أكتبه، المثال الأول وهو أنني خلال مناقشة رسالة الدكتوراة في بريطانيا، التي كانت تدور حول عنوان "كيف تجتذب المستثمر الأجنبي المباشر؟ وكانت الدول آنذاك ـ وما زالت ـ في بحث عن أي سبيل لجذب ذلك النوع من الاستثمار للاستفادة منه، وخلال مناقشة الرسالة لا أنسى مقولة قالها لي أحد المحكمين الإنجليز "أنا على يقين بأنك عندما تهبط إلى مطار القاهرة ستحمل على الأعناق هذا العمل الذي أنجزته، الذي ينطوي على فائدة كبيرة لبلدك! فعلا عدت لبلادي بحلم كبير، وهذا حقي أنا أحلم! وبالفعل، حُملت على الأعناق ... ولكن إلى ساحة الانتظار ... إذ طلبت مني الجامعة تشكيل لجنة داخلية لتقييم الرسالة ... واستغرق الأمر عاما كاملا حتى أُعَين في وظيفتي الجامعية وبعد إذلال ومعاناة لا حدود لهما ... ليس هذا فقط، بل إنني عندما ذهبت إلى إدارة الجامعة لتسليم نسخ من الرسالة لأرشيف الجامعة، وجدت موظفة الأرشيف البدينة والمترهلة تريح أقدامها على رسائل من سبقوني، لأن الطبيب نصحها بوضع أقدامها على شيء مرتفع ... هذا هو مصير العلم عندنا وحصاد جهودنا يا دكتور ساعاتي، ولكنني ما زلت أتذكر كلمة المحكم الإنجليزي، وكنت أعتقد أنني سأجد من سيسمعني، فحملت نسخة من رسالة الدكتوراة ونسخا من أبحاث متخصصة، وسافرت من مدينتي (المنصورة) إلى القاهرة لإعطاء حصاد دراستي رئيس هيئة الاستثمار، فهذا أقل واجب تجاه بلدي التي تكفلت بدارستي في الخارج، قابلتني سكرتيرته الكئيبة، وقالت والسبعة ترتسم على وجهها: ألديك موعد؟ قلت لها إنني لم آت لمصلحة شخصية، فقط أود لقاءه خمس دقائق فقط لأعطيه حصاد جهدي لعله يفيد بلدي، قالت لي: اذهب لعادل مسؤول الأرشيف وأعطه ما لديك، وسنتصل بك ـ إن شاء الله ـ كان ذلك عام 2000، ومازلت أنتظر اتصال معاليه بي! أحيانا الله وإياكم ... يا حضرات زمار الحي لا يطرب.
أما المثال الثاني، فقد ذكرته في مقالي الأول في هذه الجريدة المرموقة، وهو أنني عندما أنجزت مؤلف انهيار العولمة عام 2000، ووجهت باستهجان واستهزاء كبيرين، لدرجة أنني تقدمت بالدراسة لنيل جائزة الجامعة فرفضها أحد أساتذتي، لأنها عبارة عن أضغاث أحلام، بل إنني عندما أعطيت عمرو موسى نسخة من الدراسة نظر فيها نظرة استهتار وقال لي: "الناس تتحدث عن ميلاد العولمة وأنت تتحدث عن انهيارها يا دكتور؟! فقد ناديت في دراستي هذه بالعودة مرحلياً إلى المنهج الكينزي، إلى أن يتم التوصل إلى رؤية عالمية، يكون للمسلمين مساهمة جدية فيها من وحي كتاب الله وسنة نبيه.
أنا على يقين أنه لو كان الذي قدم الكتاب لعمرو موسى هو مارتن أو أنطونيو لكان رده مختلفاً، ولشكل اللجان لدراسته، وأستدل على ذلك بأن مؤلف جون رالستون المعنون "انهيار العولمة" صادر عام 2004، في حين أن مؤلفي أنا العربي الغلبان صادر عام 2000/2001 وحاز جائزة الدولة عام 2003، ولكن بالله عليكم، هل سمع أحدكم بمؤلف العبد لله؟! ولكننا جميعا عرفنا بمؤلف جون رالستون وكتابه. إنها عقدة الخواجة يا دكتور ساعاتي، فلم يخرج رالستون فيما كتب عما خلصت إليه في مؤلفي قبل بسنوات! ولكن أعود وأقول إن زمار الحي لا يطرب يا دكتور.
لا أقصد من ذكر تجاربي الشخصية كباحث اقتصادي عربي الحديث عن نفسي، ولكن حتى أكون مسؤولا عما أكتب وأحاجج من يناقضني بالحجة الدامغة، وأعلم أن الآلاف من الاقتصاديين العرب، وكلهم يفضلونني، عانوا أكثر مما عانيت، فالتجاهل دائماً هو سيد الموقف. آن الأوان يا دكتور ساعاتي لأن نستمع إلى علمائنا وباحثينا في جميع التخصصات، وليس في الاقتصاد فقط، حتى نعطيهم الدافع والقوة للإبداع، أما أن نبقى متشبثين بعقدة الخواجة متجاهلين ثرواتنا ونلقي باللائمة على اقتصاديين، فهذا عبء آخر يضاف إلى الأعباء والمعوقات التي تعوق الباحث والاقتصادي العربي.
تقبلوا تحياتي.